مقدمة المؤلف تاریخ ثبت : 2012/02/22
طبقه بندي : ,99,
عنوان : مقدمة المؤلف
آدرس فایل PDF : <#f:86/>
مولف : <#f:89/>
نوبت چاپ : <#f:90/>
متن :

|11|

مقدمة المؤلف

تتميز الرسالة الاسلامية بالاطلاق المكعب الذي يُعبر عنه بالابعاد الثلاثة
للاسلام، الخلود و الشمولية و العالمية، و نحن انّما نعبّر عنها بالاطلاق المكعب لما
نراه من التلازم العضوي بينها، بمعنى ان الايمان بأحدها يؤدي الى الايمان بالباقي،
و انّها في جوهرها تحكي حقيقة واحدة ظهرت في افق الزمان بصورة الخلود، و في
افق الحياة بصورة الشمولية، و في افق الانسانية بمظهر العالمية، و تلك هي حقيقة
التوحيد الفعّالة و الخلّاقة و المطلقة التي جاء الاسلام شرحاً عقائدياً لها و تعبيراً
اجتماعياً عنها، و اخذ كل خصائصه عنها، فكان خلوده تعبيراً عن ابدية التوحيد، و
شموليته تعبيراً عن فعالية التوحيد في الساحة الكونية و الاجتماعية، و عالميته
تعبيراً عن ربوبية لا يمكن الّا ان تكون عادلة و شاملة لكل افراد الانسانية، و هي
جميعاً تجسد ان التوحيد بما هو حقيقة مطلقة لا يمكننا ان نحبسه في نطاق محدود
في جهة من الجهات، و ان هذه الحقيقة و بحكم ما تتمتع به من الاطلاق لا بد و ان
تأخذ مداها في افق الزمان كلّه لتنتج الخلود، و في افق الحياة كلها لتنتج شمولية
الاسلام لمختلف جوانبها السياسية و الروحية و الاجماعية، و في افق الانسانية كلها
لتنتج عالمية الاسلام المتعالية فوق حواجز اللون و الجغرافيا و العرق و اللغة، و من


|12|

خلال امتدادها في هذه الآفاق الى نهايتها يتجسد معنى الاطلاق في الخالق الحكيم
سبحانه و تعالى‏، و معنى ربوبيته للإنسان. فإن الربوبية تعني ان اللَّه سبحانه و
تعالى ليس خالقاً و الهاً معبوداً فحسب، بل هو رب يتولى شؤون الانسان و سائر
المخلوقات بالتدبير و التوجيه و العناية، و ما انزال الشرائع و بعث الرسل و الانبياء
إلّا من جملة شؤون هذه الربوبية، و من الطبيعي ان تنعكس خصائص الرب على
هذه الشؤون، و ابرزها خصيصة الاطلاق التي ظهرت في الاسلام بمقدار ما يسمح
به عالم المكان بصورة الخلود و الشمولية و العالمية كرشحة من ذلك الاطلاق، بما
يعني في النتيجة ان حذف احد ابعاد هذا الاطلاق المكعب بمثابة نسبة النقص الى
التوحيد، و بالتالي مصادرة اصل التوحيد، اذ لا توحيد الّا توحيد الكامل المطلق.

و هذه الدراسة غير مخصصة لتناول فكرة الاطلاق المكعب بابعادها الثلاثة، و ما
سطّره المفكرون الا سلاميون في مجال البحث في خلود الاسلام و شموليته و
عالميته يشكل بمجموعه تراثاً غنياً يستحق الاكبار و الاعتزاز دون ان يعني ذلك
الاستغناء به عن الجديد، لأن الحاجات الفكرية حاجات متجددة متنامية تتطلب
رفداً متواصلاً و تجديداً مطرداً و حركة متنامية قادرة على دفع التحديات و اشباع
المتطلبات الآنية والمستقبلية و بالمستوى الكمّي و الكيفي المتناسب معها. خاصة و
ان الاسلام في الظروف العصرية الراهنة يعيش اجواء معركة كاملة الابعاد و
الجوانب مع حضارة تنظر اليه نظرة النقيض لنقيضه، و نظرة الحاكم الذي يعطي
لنفسه الحق في قمع خصومه و اضطهادهم و تطبيق مقولاته عليهم.

و انّما تهتم هذه الدراسة ببحث جانب من جوانب احد ابعاد هذا الاطلاق، ذلك
هو مقولة الدولة العالمية في الاسلام التي تشكل الجانب الحيوي من جوانب
العالمية الاسلامية، على أمل التوفر في فرصة قريبة لاحقة على دراسة شاملة
للأطروحة العالمية في الاسلام.

و الشي‏ء الذي نجد ضرورة الاشارة اليه و نحن على اعتاب الكتاب، هو انّنا لا


|13|

ننظر الى عالمية الاسلام كما لو كانت حكماً عادياً أو خصيصة عادية من احكام
الإسلام و خصوصياته، و انّما ننظر اليها في اطار فكرة الاطلاق المكعب على انّها
احد الابعاد الثلاثة التي يؤدي حذف أو اهمال احدها الى نسبة النقص الى التوحيد،
و بالتالي إلى مصادرته، اذ لا توحيد إلّا توحيد الكامل المطلق الذي لا بد و ان
يتجسد كماله و اطلاقه في دينه المنزل الى عباده، فكان خلود الاسلام و شموليته و
عالميته تجسيداً لهذا الكمال بمقدار ما يسمح به عالم الامكان المحفوف بالنقص من
ظهور الكمال في ساحاته و ميادينه، و بالنتيجة اننا ندرس مقولة الدولة العالمية في
اطار هذه النظرة التي تتسع لخصوبة الاسلام و تسمح بظهور اشعاعاته المطلوبة
لواقع الحياة، ذلك ان المسائل الفكرية لا بد و ان تعالج في ضوء النظرة و الاطار
الفكري الخاص بها، و ان يتجرد الانسان عن خصوصياته و اطاره الفكري الخاص
به، ويتلبس بتلك النظرة و الاطار الفكري الخاص بها حتى يتوصل الى النتائج
المطلوبة، و من الطبيعي ان يصل الانسان الى نتائج مشوهة حينما يعالج موضوعات
بحثه في اطار النظرة الخاصة به و لا يعالجها في اطاراتها الخاصة بها.

و في معالجتنا لموضوع شائك كموضوع الدولة العالمية في الاسلام يجد الباحث
نفسه في حاجة ماسّة الى خصوبة فكرية كافية تمكنه من معالجة الجدليات التي
يخوضها بجدارة و كفاءة و أصالة، فاذا نظر الى هذا الموضوع من خلال اطار لا
يتناسب معه يكون قد ضيّق الخناق على نفسه و صادر الخصوبة الفكرية التي
يحتاج اليها و هو لا يزال في بداية الطريق.

اننا حينما ندافع عن التوحيد في الحقل الفلسفي و الكلامي لا نتجمد في نطاقه
التجريدي، بل نخوضه و نتعداه و نجعله مقدمة للوصول الى الميدان الاجتماعي،
بوصفه المقصود الأساس الذي يتوجه الخطاب التوحيدي نحوه، فأننا لا نؤمن
بتوحيد منعزل عن الكون و الحياة كما (قالت اليهود يد اللَّه مغلولة)
[1]. بل نؤمن


(1). المائدة / 64.


|14|

بتوحيد فعّال يمسك بدفّة الكون و الحياة الانسانية، يقودها بقدرته المطلقة ويوجهها
بعلمه المطلق لكي يوصلها الى رشحةٍ مما يتحلى به من الكمال المطلق.

اننا نؤمن بتوحيد (فعّال لما يريد) [1] (على كل شى‏ء قدير) [2] (يبدئُ و يعيد) [3] و
هو (اقرب اليهم من حبل الوريد) [4] (يدبر الأمر) [5] و (يكوّر النّهار على الليل) [6]، و
ما من ذرة في الوجود إلا و تخضع في كل آن من عمرها لقدرة اللَّه و مشيئته و
اختياره وقضاءه و قدره و ربوبيته و تدبيره و بداءه، أي اننا نؤمن بتوحيد ذي فعالية
سيّالة متواصلة في ساحة الكون و الانسان، و هي فعّالية خالدة بخلود التوحيد و
أبديته، وشاملة لمختلف جوانب الحياة الانسانية السياسية منها و العبادية ما دام
التوحيد لايدع ذرة في الوجود تتحرك بلا مشيئة منه، أما تكوينية كحركة القلب و
الشمس والقمر، أو تشريعية كحركة الانسان المطلوبة في مختلف مجالات الحياة
على اساس احكام الشريعة الاسلامية، و هي أخيراً فعاليّة عالمية شاملة للجنس
البشري بجميع أفراده و قومياته و قبائله ما دامت صادرة عن رب مطلق تنهار أمام
فيضه كل‏الحدود و الحواجز القومية و الأقليمية. و هذا معنى‏خلود الاسلام و
شموليته وعالميته.

ان الاله العاجز عن التأثير في الكون و الحياة ليس بإله، و الوهية التوحيد
الحقيقي هي الوهية الفيض المطلق الذي ليس بوسع حد زماني أو مكاني أو
موضوعي أن يوقف زحفه الفعال باتجاه استيعاب الساحة الانسانية حتى آخر ذرة
فيها، و ما مقولة عدم صلاحية الاسلام لغير العصور الوسطى إلّا فرضية تستند على


(1). البروج / 16.

(2). الحديد / 2.

(3). البروج / 13.

(4). ق / 16.

(5). السجده / 5.

(6). الزمر / 5.


|15|

أساس وجود حد زماني تقف عنده الوهية الفيض المطلق الفعال، كما ان المقولة
العلمانية القائلة: بأن الاسلام جاء لأشباع الحاجات الروحية و لم يأتِ لتوجيه
الحياة الاجتماعية فرضية اخرى تستند على أساس وجود حد موضوعي اجتماعي
تقف عنده هذه الألوهية، كما ان مقولة اختصاص الاسلام بالجزيرة العربية و عدم
صلاحيته للتطبيق فيما عداها فرضية ثالثة تقوم على أساس ان هناك حدّاً جغرافياً
ليس بوسع هذه الألوهية أن تتجاوزه.

و واضح ان هذه الفرضيات لا تتنافى مع الاسلام في حكم من أحكامه أو بعد
من أبعاده فحسب، و انّما تتنافى مع أصل التوحيد الذي نؤمن به، فهل التوحيد الذي
يعجز عن استيعاب الزمان فيثبت سلطانه على القرون الوسطى و تعجزه القرون
الحديثة بتوحيد قادر مطلق فعال؟، و هل التوحيد الذي يلامس شغاف القلوب و
الأرواح و لا يتجاوزها الى معالجة الظلم و التطاحن البشري و يعجز عن قيادة
الحياة الاجتماعية يمثل ربوبية قاهرة مطلقة؟ و هل التوحيد الذي تلويه حدود
الجزيرة العربية و لا تسمح له بتعديها الى ما وراءها يمثل الوهية حقيقية؟ و هل
بوسعنا أن نصفه حينئذ بأنّه «رب العالمين»؟

و هكذا فإن كل واحدة من هذه الفرضيات لا تؤدي الى اسلام ناقص فقط، و انّما
توّدي الى نفي أصل التوحيد. و هذا يعني في المقابل انّنا حينما نؤمن بالتوحيد، فلا
بد و أن نؤمن بإطلاقه المكعب على الصعيد الانساني بالنحو الذي يجسد استيعاب
المطلق للمحدود، و عجز الحدود - الزمانية و الموضوعية و المكانية - عن منع
المطلق من الوصول الى مبتغاه الأخير في آفاق الزمان و الحياة و المكان.

و في اطار حيوي خصب رحيب كإطار فكرة الاطلاق المكعب هذه يستطيع
الباحث أن يعالج مقولة الدولة العالمية في الاسلام معالجة غنية و أصيلة و حيوية.

و يخرج بنتائج مهمة على صعيد الجدليات العصرية التي تعترض سبيل
هذه‏المقولة.


|16|

لقد ضربت القومية بأطنابها في الواقع الانساني المعاصر حتى يخيل للباحث و
هو يطالع مشاهد الولاء لقيم الدم و الأرض و العرق ان البشرية قد عادت الى حيث
بدأت عند ما كانت تخشع أمام الطواطم القبلية و أصنام العصبية، و تقدم لها ألوان
التقديس و الهدايا و النذور.

و ما زال الشعور القومي هائجاً لدى الانسان المعاصر حتى تولدت عنه حربان
عالميتان في النصف الأول من القرن العشرين في ظاهرة فريدة لم يعرفها الانسان
من قبل، مما أثار فيه الفزع و الرعب، و جعله ينظر بعين القلق الى المستقبل، و
أحسَّ بأن مستقبلاً مظلماً سيكون في انتظاره ما لم يبادر الى التخفيف من غلواء
القومية، فاتجه صوب كل فكرة تحقق له ذلك، فظهرت فكرة تشكيل هيئة دولية
باسم عصبة الامم، ثم تطورت هذه الهيئة و أصحبت تعرف بهيئة الامم المتحدة التي
ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، و في أعقاب هذه الحرب أيضاً ظهر
الاعلان العالمي لحقوق الانسان، و اكتسح المد الشيوعي الاممي آسيا و أفريقيا و
أوروبا و أمريكا اللاتينية، و تنادى زعماء العالم الفكريون و السياسيون الى عالم
متآخٍ يخلو من العدوان القومي.

و سار الانسان المعاصر في طريقه الجديد و هو يظن انّه قد تغلب على التطرف
و أحرز الاعتدال الذي سيؤدّي به الى السلام العالمي، و ان نداءات«ألمانيا فوق
الجميع» «سودي يابريطانيا و احكمي» و امثالها قد ولّت الى غير عودة، لكنّه
سرعان ما فوجي‏ء بأن ما حصل ليس طريقاً جديداً فيه الاعتدال و السلام، و ان
مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية هي مرحلة «استراحة المقاتلين» التي يحتاج
اليها اطراف النزاع الدولي المستمد من الشعور القومي لتجدد قواهم و اعادة بناء
جيوشهم و ترساناتهم العسكرية، و لذا أطلقوا عليها تسمية «الحرب الباردة» التي
انقسهم فيها العالم الى معسكر شرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي، و معسكر غربي
بقيادة أمريكا.


|17|

و اتجه الانسان المعاصر في هذه المرحلة نحو التسليح العسكري بكيفيات و
كميات رهيبة تساوي أضعاف ما عرفه التاريخ البشري بمجموعه منها، و ما كاد
القرن العشرين يقضي أعوامه الأخيرة حتى أعلنت أمريكا شعار «أمريكا فوق
الجميع» و بادرت الى تكريسه و تعميقه في ذهنية الانسان المعاصر من خلال
مبادرة عسكرية ضخمة جنّدت من أجلها 30 دولة من الأقمار الصغيرة و الكبيرة
السائرة في فلكها، و ذلك في حرب الخليج الفارسي الثانية التي راح ضحيتها شعب
مسكين بجريرة حاكم مغرور. و التي كانت ضرورة أمريكية حتى يتاح للأمريكان
أن يعلنوا من موقع القهر و الغلبة و في مهرجان الدم و التدمير ان عصر السيادة
الأمريكية الكاملة على العالم قد بدأ.

و هنا يتاح للإنسان المعاصر أن يكتشف ان نداءات السلام و التآخي العالمي، و
اطروحات الأمم المتحدة و الاعلان العالمي عن حقوق الانسان، و فلسفة الأممية،
ما هي الا شعارات قد تكون صادقة لكنّها عاطفية فارغة ليس بوسعها ان تحدّ من
غلواء القومية، و ان المسألة ليست مسألة قومية متطرفة و قومية معتدلة و انّما
مسألة حضارة مادية تجد في مقولة الصراع و النزاع أساسها الطبيعي و جوهرها
الحتمي، و ان القومية حينما تنبت في مثل هذه الحضارة لا يمكنها إلا أن تكون
قومية اعتدائية ترفع نداء «أنا فوق الجميع»، فإن كانت قومية غالبة قوية أعلنت هذا
النداء بصراحة، و ان كانت قومية مغلوبة ضعيفة أضمرت هذا النداء و رفعت بدلاً
عنه شعار الانسانية و التآخي العالمي زوراً و بهتاناً، فالقومية في مثل هذه الحضارة
المادية عدائية دائماً بالفعل أو بالقوّة، و أكثر القوميات المعاصرة المتوسطة سلكت
سلوكاً مزدوجاً، فحينما تقف أمام الغرب تناديه باحترام و خشوع و خوف بنداء
الانسانية و السلام العالمي، و حينما تقف أمام قومية اصغر منها تنظر لها بازدراء و
تتعامل معها بعدوان و بطش و كبرياء. كما هو المألوف في عالم الغابات المتمدن
جدّاً!! و ما دامت المسألة تعود في جذرها الأخير الى القاعدة المادية للحضارة


|18|

الغربية، فمن الهراء أن ندعو الى السلام العالمي و تلطيف الشعور القومي، و من
المنطق أن ندعو دعاة و أتباع هذه الحضارة المادية أن يفسحوا المجال أمام حضارة
جديدة تنبذ القيم المادية الأرضية و تبتني على قاعدة من القيم السماوية، تلك هي
الحضارة الاسلامية المنطلقة من التوحيد الذي يعبّر عن نفسه في الساحة الانسانية
بصورة العقيدة ذات الاطلاق المكعب التي تفتح أذرعها الكبيرة لتحتضن البشرية
مهما امتدت في عمودي الزمان و المكان، و منذ فردها الأول حتى فردها الأخير، و
على امتداد الكرة الأرضية لتكوّن من الجميع أسرة واحدة، و تقول لهم: انكم أبناء
أب واحد و اُم واحدة، اخوة في اُسرة واحدة، متساوون في الانسانية، و انكم جميعاً
نفس واحدة، و أُمة واحدة.

وفي اطار حضارة روحية سماوية كهذه فقط يتاح للإنسان أن يتحدث عن
عالمية حقيقية ليست عاطفية، و عن سلام عالمي حقيقي و عن شعور قومي معتدل
لا يرى نفسه فوق الجميع، و انّما يرى نفسه كأحدهم (و تلك الدار الآخرة نجعلها
للذين لا يريدون علواً في الأرض و لا فساداً)
[1] لان العلو خاصية من خواص
التوحيد (و كلمة اللَّه هي العليا) [2] و ليست من خواص الانسان، و على الانسان أن
يبحث عن خاصيته الحقيقية المتناسبة مع شأنه و هي العبودية للّه سبحانه و تعالى و
التسليم بخاصية العلو للتوحيد، فاذا سلك هذا الطريق أدى به الى أن ينظر الى نفسه
و الى الآخرين نظرة طبيعية متوازنة هي نظرة المساواة و الاُخوة (انّما
المؤمنون‏اُخوة)
[3].

و الدولة الاسلامية هي المشروع السياسي المنبثق عن هذه الحضارة، و المتصدي
لبنائها في الوقت نفسه، منبثق عن التوحيد كحقيقة مطلقة، و متصدي لتصميم الحياة


(1). القصص/83.

(2). الحجرات/10.

(3). التوبة/40.


|19|

الاجتماعية في ضوء هذه الحقيقة، و افراز حضارة توحيدية على أساسها.

و هذا هو المعنى العالمي الحتمي في الدولة الاسلامية الذي اختص كتابنا هذا
بمعالجته عبر ثلاثة فصول، تناولنا في الفصل الأول مفهوم الدولة العالمية، و اين
يجد هذا المفهوم مصداقه الحقيقي، و شرحنا في الفصل الثاني الأبعاد التي تتجلى
عالمية الدولة الاسلامية من خلالها، والأركان التي تنهض على أساسها، و اختص
الفصل الثالث بمعالجة الجدليات العصرية، و المشكلات التطبيقية التي تعترض
سبيل الدولة العالمية، و طرق التغلب عليها.

آملين أن نكون قد وفقنا لنيل الغرض المقصود، و من جملة الغرض المقصود
تحفيز حملة الفكر الاسلامي لبذل جهودهم الفكرية في هذا المجال الحيوي الذي
يعيشه الفكر السياسي الاسلامي المعاصر.

ان النظرية السياسية الاسلامية التي اطلّت على عالم التطبيق قبل عقدين من
الزمن على يد الامام الخميني رضي الله عنه تقف على أعتاب انطلاقتين مهمتين،
انطلاقة باتجاه تعميق تجربة الحكم الاسلامي و الارتفاع بها الى مستوى الطموح
النوعي القادر على إشباع الحاجات السياسية للساحة الاسلامية، و مواجهة
التحديات و الشبهات والاستفهامات التي تواجهها في الداخل والخارج و بالحد
الذي يجعلها تجربة مشعة تساعد على ظهور الانطلاقة الثانية، و هي الانطلاقة
باتجاه التبشير بهذه التجربة و الدعوة الى احتذائها في سائر بلدان العالم الاسلامي
كتجربة اسلامية أصيلة قادرة على استيعاب المتطلبات العصرية و مواجهة
التحديات الغربية و الاستجابة للمشكلات المعاصرة في الحياة الاسلامية و في
مقدمتها مشكلة الحكم و الدولة و مشكلة التغريب و التبعية.

ان الضرورة الاسلامية الملحة تقتضي تواصل الرفد الفكري الرصين والأصيل
من أجل الوصول بواقع الدولة الاسلامية المعاصرة الى مواقع متقدمة أكثر كمالاً و
نضجاً من السابق، ان على المفكرين الاسلاميين أن يعدّوا أنفسهم للتحديات


|20|

الفكرية المستقبلية، فإن الحضارة - كل حضارة أسلامية كانت أم غير إسلامية - تبدأ
من شعار مركزي ما يلبث أن يتفرع و يتشعب حتى يستوعب الجهات الاجتماعية و
الفكرية و الاقتصادية و الأخلاقية التي تحيط به عبر و ثبات تاريخية متعددة، و
كلما مرّبها زمن جديد و تجارب جديدة دخلت في تفاصيل جديدة و احتاجت الى
معالجات جديدة، و ربما احتاجت الى اصلاح بعض المتبنيات السابقة الثانوية و
اعطاء رؤى جديدة أفضل منها.

و كتطبيق لذلك نلاحظ ان الحضارة الاسلامية بدأت بالشعار المركزي الذي
طرحه الرسول الأعظم(ص) في «قولوا لا إله إلا اللَّه تفلحوا»، و بمرور الزمن تحول
هذا الشعار الى رسالة، و الرسالة الى دعوة، و الدعوة الى دولة، و عندما توفي
الرسول(ص) كانت هذه الدولة تقف على أعتاب حضارة و انطلاقة انسانية كبرى، و
كان من الطبيعي أن تفرز المرحلة الجديدة تساؤلات و إثارات فكرية جديدة لم
تكن معهودة في زمن الرسول(ص)، و قد كان موقف الصحابة منها يتمثل في
اتجاهين، اتجاه رفع شعار: اسكتوا على ما سكت اللّه عنه، و اتجاه آخر كان ينادي
باستمرار: اسئلوني قبل أن تفقدوني، و كان عدد من الصحابة يمثلون الاتجاه الأول
المنطلق عن العجز و المتكي‏ء على القمع، بينما كان الامام علي(ع) يمثل الاتجاه
الثاني المنطلق من الثقة الكافية بالنفس و المتكي‏ء على الدليل و المنطق و الاقناع.

ان مقولة (و يسألونك) المتكررة في القرآن الكريم 15 مرّة و التي جسّدها
القرآن الناطق الامام على(ع) عدة مرات حينما قال: «اسئلوني قبل أن تفقدوني»
تدلل على ضرورة تواصل الرفد الفكري الأصيل، ذلك ان عجلة الحياة تجعلها في
تغيّر مستمر من صورة الى أخرى على اُصول معينة، فإذا أردنا للأصول الدينية أن
تبقى ثابتة و لا تأتي عليها عجلة الحياة، فلا بد من اشباع متطلبات التغيير
الاجتماعي من صورة زمنية الى صورة زمنية أخرى، و هذا يتطلب حركة فكرية
تكون في موقع القمة دائماً من حيث الزخم و الفعالية، حركة فكرية تبادر الى معرفة


|21|

السؤال و استكشافه و الاجابة عنه و هو لا يزال في وجدان الامة، و قبل ان يشتد و
يتحول في الساحة الى خط انحرافي خطير.

و الاسلام ينطوي في داخله على روافد فكرية ضخمة من شأنها أن تولّد مثل
هذه الحركة المطلوبة على الصعيد الفكري، مثل عدم جواز التقليد في العقيدة، و فتح
باب الاجتهاد في الشريعة، و وجود المتشابة الى جانب المحكم في القرآن الكريم
بالنحو الذي يحفّز الذهن باتجاه البحث و التحقيق، اضافة الى ما انطوى عليه القرآن
الكريم من دعوة ملحّة الى العلم و الدليل و الفكر و التحقيق، حيث نجده قد كرر
مادة «كتب» 319 مرّة،و مادة «فكر» 18 مرّة، و مادة «علم» 854 مرّة، و مادة
«نظر» 129 مرّة، و مادة «فقه» 20 مرّة، و مادة «برهان»8 مرات، و مادة «عقل» 49
مرّة، و مادة «دبَر» 44 مرة، و مادة «بصر» 148 مرّة، و مادة «سمع» 185 مرّة، و
مادة «رأي» 328 مرّة، و مادة «قرأ» 88 مرّة، أي انّه ذكر العلم بمصادره و المعاني
القريبة منه 2190 مرّة.

و هذا يعني ان الاسلام يستبطن ثورة فكرية لا نظير لها، و انّه قد اعدَّ هذه الثورة
لتكون الرصيد المطلوب الذي تقوم على أساسه حركة الأمة و تطورها في مختلف
المراحل الزمنية التي ستجتازها.

و على المسلمين في المرحلة الراهنة أن يسخّروا امكاناتهم الفكرية و يستثمروا
ما في الاسلام من ثورة فكرية من أجل أن يدفعوا بالصحوة الاسلامية الى مواقع
متقدمة باستمرار. و التخطيط لوثبات قادمة على طريق هذه الصحوة، دون أن
تنال‏من عزيمتهم الحديدية بعض الكبوات الطبيعية التي تلازم أكثر النهضات
والحركات التغييرية.

و يأتي الجانب العالمي من الاسلام كرسالة و عقيدة و شريعة و دولة في مقدمة
الجوانب التي تحتاج الى جهود فكرية كافية تبين طبيعة الاطروحة العالمية في
الاسلام و خصوصياتها و سبل تطبيقها في الواقع الاسلامي، و المشكلات التي


|22|

تواجه ذلك، و طرق حل هذه المشكلات.

و هو الجانب الذي استأثر باهتمام كاتب هذه السطور منذ ثماني عشرة سنة، و
حرص على أن يدرسه بدقة و عمق، ويلمّ بكل ما كتب حوله، و بما يدخل في
موضوعه من الفكر الحديث من جهة من الجهات، فجاء الكتاب الذي بين يديك
ثمرة من ثمرات هذا الجهد المتواصل طيلة هذه الأعوام، و كان الحافز الذي يدفعني
بهذا الاتجاه يتمثل في عدة نقاط هي:

1. ان ما كُتب عن عالمية الاسلام عبارة عن اشارات عابرة و أفكار متناثرة و
محاولات جزئية، و لم أطّلع حتى هذه اللحظة على دراسة شاملة تتناول الأطروحة
العالمية في الاسلام من مختلف جوانبها العقائدية و التشريعية و التأريخية.

2. ان العالمية خصوصية جوهرية في الاسلام بحيث انّنا ليس بوسعنا أن
نتحدث عن مجتمع اسلامي و صحوة اسلامية و دولة اسلامية بالمعنى الكامل
للإسلام مالم يكن هذا المجتمع و الصحوة و الدولة عالمياً بالمفهوم الاسلامي
التوحيدي للعالمية.

3. ان القومية قد لعبت دوراً خطيراً في التأريخ الاسلامي الحديث، فهي التي
أسقطت الدولة العثمانية، و هي التي مهدت الطريق لظهور العلمانية، و هي التي
جزأت المسلمين و جعلتهم قوميات متصارعة تعتز كل منها بجاهليتها أكثر من
أعتزازها بإسلامها، و لم تبلغ الشيوعية و سائر الأفكار الهدامة التي دخلت محيط
المسلمين جزءاً يسيراً من المخاطر التي سببتها القومية لهم، و الطريق الوحيد
لمكافحة القومية و التغلب عليها يتمثل في إبراز المعنى العالمي في الاسلام و تركيزه
في فكر و مشاعر و عواطف و ثقافة المسلمين.

4. و رغم ان الغرب يرتكز على مفهوم القومية في حضارته إلا انّنا نشاهده في
بعض الفترات يرفع لا فتة العالمية من أجل بسط نفوذه على العالم، كما حصل ذلك
في العقدين الرابع و العاشر من القرن العشرين، و في مثل هذا الظرف يحتاج العالم


|23|

الاسلامي الى فضح هذا السلوك الاستعماري الذي يرفع لواء «العولمة» و «القرية
العالمية الواحدة» لفرض النمط الغربي على آسيا و أفريقيا و أمريكا اللاتينية، و
المعنى العالمي الأخلاقي التوحيدي للإسلام هو أفضل ما يتيح لنا ذلك، فهو من جهة
يعبي‏ء العالم الاسلامي في وحدة عقائدية سياسية واحدة قادرة على الصمود في
وجه التحدي الخطير، و هو من جهة ثانية يبيّن التناقض الفاضح بين حضارة قومية
و شعارات عالمية، و كيف ان العالمية لا تجد معناها الحقيقي الصادق إلا في ظل
حضارة توحيدية كالاسلام، فإن كان العالم يسير بإتجاه قرية واحدة عالمية، فليس
بوسع الغرب أن يكون اطاراً حضارياً جامعاً لها، لأنّه حضارة قومية من حيث
الأساس، و ان الاسلام هو الاطار الوحيد القادر على أن يكون اطاراً جامعاً
لهذه‏القرية.

5. و من النقطة السابقة يتضح ان البحث في عالمية الاسلام يؤدّي أغراضاً
تبليغية كبيرة الأثر لصالح الاسلام في العالم، فالقرن العشرون الذي أذاقته القومية
حربين عالميتين و حرباً باردة، و قد استوعبته من بدايته الى نهايته جعل البشرية
تتطلع الى مجتمعٍ متآخٍ يبحث عن السلام بصدق، و قد أحسّت بسبب ذلك بالحاجة
الى حياة معنوية تحياها في اطار الأديان، و كان ذلك سبباً أساسياً في الظاهرة
الدينية
التي برزت في نهاية القرن العشرين بالنحو الذي هيأ الأجواء النفسية و الفكرية
الكافية لتقبّل الاسلام في العالم، و بوسع المسلمين اليوم أن يتخذوا من البعد العالمي
في الاسلام بوّابة واسعة لنشر و تبليغ هذا الدين الحنيف في مختلف نقاط العالم.

فلماذا لا نتحدث عن عالمية الاسلام كعطاء أخلاقي سياسي فريد لعالم القرن
الواحد و العشرين؟ و لماذا لا نجاهر بمركزية الاسلام في الأرض و الحضارة
بوصفها المركزية الحقّة التي ليس هناك ما يفضح المركزية الغربية الباطلة
بأحسن‏منها؟

(و قل اعملوا فسيرى اللّه عملكم و رسوله و المؤمنون)

المؤلف
تعداد نمایش : 3792 <<بازگشت
آموزش

سامانه آموزش

پژوهش

سامانه پژوهش

کتابخانه

کتابخانه دیجیتال

نشریه

فصلنامه حکومت اسلامی