الفصل الأوّل الدولة الاسلامية و مفهوم الدولة العالمية تاریخ ثبت : 2012/02/22
طبقه بندي : ,99,
عنوان : الفصل الأوّل الدولة الاسلامية و مفهوم الدولة العالمية
آدرس فایل PDF : <#f:86/>
مولف : <#f:89/>
نوبت چاپ : <#f:90/>
متن :

|27|

الفصل الأوّل الدولة الاسلامية و مفهوم الدولة العالمية




الفصل الأوّل الدولة الاسلامية و مفهوم الدولة العالمية

يقسّم علماء السياسة و فقهاء القانون الدستوري الدول عدّة تقسيمات، كل تقسيم
بلحاظ جهة معينة و ملاك معيّن، و حصيلة هذه التقسيمات تكوّن قائمة طويلة
بأسماء اشكال الدول و انظمة الحكم.

فطبقاً للمعيار الدستوري هناك دولة جمهورية و دولة ملكية مقيدة، و ثيوقراطية
و استبدادية، و ملكية غير مقيدة، و رئاسية و برلمانية، و طبقاً للمعيار الاقتصادي،
هناك حكومة اقطاعية، و رأسمالية، و اشتراكية، و طبقاً للمعيار الجغرافي، هناك
حكومة قبلية و قطرية، و قومية، و الحكومة المتعددة القوميات، و حكومة عالمية، و
طبقاً لمعيار السيادة، هناك دولة و حدوية، و امبراطورية، و اتحادية.[1]

و هذه الاشكال و الأنظمة تشكل بمجموعها خلاصة التجربة البشرية على صعيد
الحكم و الدولة.

و حينما يتصدى الاسلام لبناء دولته الالهية لا بد و ان يختار الشكل السياسي
المتناسب مع اطروحته السماوية، او بتعبير ادق. لا بد و ان تتبدى هذه الاطروحة
في شكل سياسي معين و بهوية مستقلة و أصيلة، و قد حدّد السيد الشهيد الصدر
الشكل السياسي للنظام الاسلامي بقوله: «و من ناحية شكل الحكومة تعتبر
الحكومة - يقصد الحكومة الاسلامية - قانونية اي تتقيد بالقانون على اروع وجه،


(1). تكوين الدولة / ص‏190.


|28|

لأن الشريعة تسيطر على الحاكم و المحكومين على‏ السواء، كما ان النظرية
الاسلامية ترفض الملكية اي النظام الملكي و ترفض الحكومة الفردية بكل
اشكالها، و ترفض الحكومة الارستقراطية، و تطرح شكلاً للحكم يحتوي على كل
النقاط الا يجابية في النظام الديمقراطي مع فوارق تزيد الشكل موضوعية و ضماناً
لعدم الانحراف، فالأُمة هي مصدر السيادة في النظام و هي محط الخلافة و محط
المسؤولية أمام اللّه تعالى في النظام الاسلامي.... و من ناحية تحديد العلاقات بين
السلطات تقترب الدولة الاسلامية من النظام الرئاسي و لكن مع فوارق كبيرة عن
الانظمة الرئاسية في الدول الرأسمالية الديمقراطية...»[1]

و كل العناصر التي ذكرها سماحته عناصر ثابتة تمثل جوهر النظام الاسلامي،
الا أنها ليست العناصر الكاملة له، فهناك عناصر لم يذكرها، و لعله اعتبرها عناصر
مستبطنة في بعض ما ذكره، و السياق يدل على انه لم يكن بصدد بيان كافة
الخصوصيات من كافة الجهات، و أهم خصوصية لم يذكرها هي الخصوصية
العالمية في الدولة السلامية، و هي خصوصية ذات اهمية كبيرة بحيث نستطيع ان
نجعلها في مقدمة امتيازات النظام الاسلامي على ما سواه من الأنظمة، و لذا فهي
تتطلب إبرازاً مستقلاً و اكيداً اكثر من سائر الخصوصيات، ذلك ان عالمية الدولة
الاسلامية تارة يُنظر اليها من زاوية الموقع التشريعي الذي تحتله، و اخرى من زاوية
الغرض الانساني الذي تؤديه، و كلاهما يؤديان الى نتيجة في القمّة، فمن الزاوية
التشريعية نجد ان عالمية الدولة الاسلامية ليست حكماً تشريعياً ذكره القرآن الكريم
في آية او آيتين، كما هو الامر بالنسبة الى خصوصية الشورى التي ان طبقناها كان
الحكم منسجماً مع اية قرآنية و مطبقاً لحكم تشريعي جزئي و ان لم نطبقها كان
الحكم القائم مخالفاً لهذه الآية و متنافياً مع ذلك الحكم التشريعي، و ليس الأمر
كذلك في الخصوصية العالمية للدولة الاسلامية، لأنها ليست حكماً تشريعياً


(1). الاسلام يقود الحياة / ص‏18-17.


|29|

منصوصاً عليه في اية او آيتين فحسب، و انما هي كمثل احد الابعاد الثلاثة الرئيسية
للإسلام التي تمثل بمجموعها مقولة الاطلاق المكعب التي مرّت الاشارة اليها آنفاً،
فعالمية الدولة الاسلامية هي المظهر السياسي المعبر عن ربوبية شاملة لكافة افراد
الجنس البشري و ناظرة للجميع بعين العدل و العطف و المساواة، و اغفال هذا
المظهر يعني اغفال جانب من جوانب التوحيد، بما يعني في النتيجة ان التجربة
القائمة ليست تجربة توحيدية كاملة، و أنها تأخذ من السماء جانباً و من الارض
جانباً آخر، و بالتالي فهي مزيج من حضارتين متناقضتين، ذلك ان التوحيد بما هو
حقيقة مطلقة لا يمكننا ان نحبسه في نطاق محدود من جهة من الجهات، و لا بد و
ان تأخذ هذه الحقيقة مداها في كل الافاق المحيطة بها و تستوعب الساحة
الانسانية من ابعادها الزمانية و الموضوعية و المكانية حتى يتاح لنا الاعتقاد بأنها
هي حقيقة الالوهية و الربوبية التي ينشدها الانسان في حياته، و امتدادها في افق
الزمان الى نهايته هو الذي يُعبر عنه بخلود الرسالة الاسلامية، و امتدادها في افق
الحياة البشرية الى نهايته هو الذي يعبر عنه بشمول الرسالة الاسلامية لمختلف
جوانب الحياة الانسانية. كما ان امتدادها في الافق الجغرافي للمجتمع البشري الى
نهايته هو الذي يُعبر عنه بعالمية الرسالة الاسلامية.

و هذه الامتدادات الثلاثة تجسد الانعكاس الطبيعي لأطلاق المطلق على
الساحة الانسانية، فالعالمية هي التعبير الطبيعي عن ربوبية مطلقة رحيمة و عادلة
تدير دفة الساحة الانسانية على اساس المساواة و الحق، و لذا فإن خصائص النظام
الاسلامي يمكننا ان نقسمها الى قسمين:

الاول - خصائص توحيدية نابعة من عمق فكرة التوحيد.

الثاني - خصائص تشريعية نص عليها القرآن الكريم كخصيصة الشورى التي
اوردها القرآن مرتين.

و كلا القسمين خصائص ثابتة لا تقبل التغيير، الا أن القسم الأول مستمد من


|30|

اصل التوحيد و يمثل خصائص جوهرية ليس للإسلام فيها شريك و لا نظير، بينما
لا يحمل القسم الثاني هذه الصفة، فمن الممكن العثور على انظمة حكم تحمل
الخصيصة الشوروية كما يحملها النظام الاسلامي بينما ليس بالامكان العثور على
نظام سياسي يحمل الخصوصية العالمية بجدارة و صدق لا كشعار عاطفي سرعان
ما يتحول إلى وسيلة استعمارية غير النظام الاسلامي التوحيدي، و حينما نقول: ان
الخصيصة العالمية في الدولة الاسلامية مستمدة من التوحيد فهذا لا يعني أنها تفتقر
الى الدليل القرآني و النبوي. فالقرآن الكريم مليّ بالشواهد و الادلة على ذلك، و كذا
السنة النبوية، و المقصود ان الاساس في الخصيصة العالمية هو المنبع التوحيدي لها،
و انما القرآن - و كذا السنة - يكشف عن ذلك و يؤكده، و بتعبير آخر، ان القران
الكريم حينما ينص على الشورى نستكشف من ذلك ورود الجعل التشريعي بها، و
حينما يشير الى عالمية الاسلام و دولته لا نستكشف من هذه الاشارة ورود الجعل
التشريعي بها بل نستكشف التاكيد القرآني عليها، لأن الشريعة الصادرة من رب هو
رب العالمين العادل الرحيم ليس بوسعها ان لا تكون عالمية حتى تحتاج عالميتها
الى نص و جعل، فالعالمية خصيصة اعلى شأناً من ان تحتاج الى جعل تشريعي،
لأنها خصيصة توحيدية ترقى الى موقع القمة في الاسلام و النظام الاسلامي، و اذا
كانت الخصائص التشريعية تمثل شروط النظام الاسلامي، فان الخصائص
التوحيدية تمثل روح و جوهر هذا النظام، و اذا كان انعدام الخصائص التشريعية
يؤدي الى اختلال النظام الاسلامي و نقصانه فإن انعدام الخصائص التوحيدية
كالخصيصة العالمية يؤدي إلى انهدام النظام و استحالته الى صورة غير اسلامية،
فالشورى وسيلة يرعى بها وحدة الامة و تعبر عن احترام الحاكم لها، بينما تمثل
عالمية الدولة الاسلامية قيمة ذاتية مستقلة تقاس بها اسلامية الدولة وشرعيتها.

و اذا ألقينا نظرة على الساحة الانسانية وجدناها على الدوام بحاجة ماسّة الى
أطار يجمعها، و ما ظاهرة النظم الامبراطورية قديماً، و ظاهرة الاستعمار و


|31|

الامبريالية حديثاً و دعوة العولمة اخيراً، الا ظواهر عدوانية تكشف في حقيقتها عن
حاجة الانسانية الى اطار عالمي جامع يحتضن البشرية في نطاق انساني اخلاقي و
سياسي واحد، و لما لم يكن بوسع الانسان ان يبدع اطاراً كهذا، اذ لا بد و ان يكون
الظرف غير المظروف، و ان تكون ظرفية الظرف اوسع من المظروف بحيث يصدق
عليه انه ظرفاً له، فلا بد من استمداد هذا الاطار من قدرة عليا تكون ما فوق
الانسان، و هي اللّه سبحانه و تعالى، و لا بد و ان يكون التوحيد هو الاساس
الطبيعي و الوحيد للعالمية، فإن اقيمت الحضارة على اساس التوحيد كانت عالمية
في حقيقتها و جوهرها، و ان رفضت هذا الاساس لم تجد امامها ما يكون اساساً لها
غير القومية، و كانت حضارة تعصبية في حقيقتها و جوهرها، فالتوحيد هو الاساس
الحتمي الوحيد للعالمية، و انكار التوحيد طريق حتمي الى القومية، و عندما تقام
الحضارة على اساس قومي و تخلو الساحة الانسانية من اطار انساني جامع، تجد
القومية القوية الغالبة في هذه الساحة فرصتها الذهبية في اشباع غرورها القومي و
نزوعها الجامح للإستئثار و السيطرة و الانانية، فتطرح شعار الانسانية و العالمية و
تتخذه جسراً الى اهدافها القومية و طريقاً لتكريس موقع ابوى غاشم في هذه
الساحة، و يكون الانسان الاقوى هو الظرف للإنسان الاضعف، و تكون العالمية
شعاراً خادعاً كاذباً حقيقته تتمثل في ان القومية الاقوى قدانتفخت و طرحت نفسها
كإطار مستوعب لما حولها من القوميات، و هذه هي حقيقة الظواهر العدوانية الثلاثة
التي شكلت بمجموعها خلاصة الخط العدواني في تاريح الانسانية قديماً و حديثاً،
و هي النظم الامبراطورية، و الاستعمار، والعولمة.

و هكذا نجد ان الخصوصية العالمية تحتل موقعاً ايديولوجيا متقدماً على ما
سواها من خصائص الدولة الاسلامية، كما أنها في الوقت نفسه تمثل مطلباً انسانياً
رفيع الاهمية، الأمر الذي يتطلب اهتماماً فكرياً و سياسياً بها يتناسب في النوع و
الحجم مع هذه المكانة الا يديولوجية و الانسانية التي تحتلها.


|32|

الدولة العالمية تأريخ متنوع

قد يتصور البعض ان فكرة الدولة العالمية لا تحضى بسند تاريخي كبير، و أنها
تمثل فكرة محدودة على الصعيد التاريخي، غير ان الواقع عكس ذلك تماماً، و هو
يحكي حضوراً واسعاً لهذه الفكرة اكثر بكثير مما لفكرة الدولة القومية فيه من
حضور، فطبقاً للنظرية الاسلامية القائلة بأن الدولة ظاهرة سماوية اصيلة نشأت
على يد الانبياء[1]، و بدأ ظهورها على الساحة الانسانية مع ظهور اول نبوة تشريعية
عامة من نبوات اولي‏العزم و هي نبوة نوح(ع)، و ذلك في مرحلة ما بعد الطوفان
الذي لم ينج منه سوى المؤمنون بهذه النبوة، لا يبقى لدينا مجال للشك في ان واقع
ما بعد الطوفان كان واقع الدولة النبوية العالمية التي يخضع لسلطانها البشرية المتبقية
من الطوفان، فإن هذه البشرية و ان كانت قليلة العدد، إلّا أنها من الناحية النوعية
حينما تذعن لسلطة نبوية تستند إلى حاكمية اللّه العادلة الناظرة لأفراد البشرية بعين
المساواة فانما تجسد بذلك المقولة الاساسية للدولة العالمية، وهذا يعني من الناحية
الاسلامية على الاقل ان الدولة الاسلامية لا تبدأ و لا تكون إلّا عالمية.

لقد عرف الانسان في تأريخه أنواعاً متعددة من الدول العالمية شكلت
بمجموعها حلقات متواصلة و مستوعبة للتاريخ، بحيث يكون استعراضها بمثابة
استعراض لتاريخ الدولة العالمية و هي:


1. دولة تدعي العالمية على أساس استغلالي

و هي الاكثر انتشاراً، والاسوأ نتاجاً، و مثالها البارز النظم الامبراطورية التي
شاعت في التاريخ منذ مطلعه و حتى الحلقات الحديثة منه، و هي النموذج الذي و
صفناه بالدولة العالمية الكاذبة القائمة على اساس تسخير المشاعر الانسانية لدى
الشعوب الخاضعة لحكمها لإشباع اغراض تسلطية، و من الغريب ان يشار اليها من


(1). الاسلام يقود الحياة / ص‏5.


|33|

قبل بعض الباحثين و علماء السياسة كنوع من الانظمة العالمية، فكأنهم ينظرون الى
العالمية من زاوية السلطان السياسي المتسع لاكثر من أمة و شعب فقط، مع ان هذه
الزاوية تمثل النتيجة و لا تمثل المنشأ الذي تنبع منه الصفة العالمية في الدولة.
والشي‏ءالمقبول هو أن يشار إلى هذه الدولة كشاهد تأريخي يدل على عمق الفكرة
و الشعور العالمي لدى الانسان، فالامبراطورية المصرية يشيدها تحوتمس
«2000،ق.م»، و الامبراطورية الاكدية يؤسسها سرجون في العراق حدود عام
«2750 ق.م»، ثم يقوم من بعده آشور بانيبال بتأسيس المبراطورية الآ شورية
حدود عام «668 ق.م» ثم ظهر الاسكندر المقدوني «334-356 ق.م» كأبرز داعية
في عصره لتوحيد العالم تحت سلطة واحدة، و تعتبر الامبراطورية الرومانية ابرز
مثال تاريخي في عالم الامبراطوريات لما لها من الدور الكبير الذي لعبته في تارخ
اوروبا خاصة و تاريخ العالم بوجه عام. و لعل المؤرخ البريطاني و يلز يشير اليها
بقوله: ان «تاريخ اوروبا من القرن الخامس الى القرن الخامس عشر يتكون على
نطاق واسع جداً من الفشل في تحقيق الفكرة العظيمة بإقامة حكومة عالمية».[1]

و أخيراً اعتبرت الامبراطورية البريطانية اكبر امبراطورية في التاريخ لأنها كانت
تسيطر على اكثر سكان العالم و تمتد عبر القارات الست.

والاستعمار بما هو ظاهرة تستهدف السيطرة على العالم على اساس استغلال
المشاعر الانسانية لدى المستعمرات يتحد نوعياً مع النظم الامبراطورية، او هو نوع
متطور منها، كما ان اطروحة العولمة في الثقافة و الاقتصاد و السياسة التي يتزعمها
الامريكان اليوم، تعد صيغة حديثة، و طبعة جديدة من هذه الظاهرة، و بالتالي
فالعولمة و ليدة الاستعمار، و الاستعمار هو الابن الروحي لصيغة
الحكم‏الامبراطوري.

و مع اننا من اشد الناس استنكاراً لإطلاق صفة العالمية على هذه الصيغة، إلّا اننا


(1). المذاهب الكبرى في التاريخ / ص 293.


|34|

ندرجها هنا في قائمة صيغ النظم العالمية مجاراة لما عليه الكثير من الكتاب و
الباحثين من جهة، و مجاراة لادعاء ارباب هذه الصيغة بالصفة العالمية من جهة
ثانية، و لكي نواكب الاطروحة العالمية في الحكم و الدولة من نقطة الافتراض و
الادّعاء بغض النظر عمّا لها من رصيد في الواقع و حتى ندرك الحقيقة في المرفأ
الأخير المتمثل بالدولة الاسلامية.


2. دولة عالمية على اساس مادي

و تتمثل هذه الصيغة بالاطروحة الماركسية التي اعتبرت القومية و الوطنية اموراً
من مخلّفات الصراع الطبقي، و نادت بالحكم الاممي للطبقة العاملة، و على اساس
ذلك سجل البيان الشيوعي الاول نداءاً عالمياً تحول فيما بعد إلى شعار الاممية في
كل مكان، و هو «يا عمال العالم اتحدوا»، و تعتقد الماركسية ان التحول نحو الاممية
امر حتمي، و ان البشرية ستشهد في نهاية المطاف ظهور الشيوعية الثانية التي
ستسود العالم و تجعله عالماً متوحداً.

و واضح أن انهيار الماركسية بعد ما اتيحت لها الفرصة الكافية، للتطبيق قد جعل
الباحث في غنى عن مناقشتها، و انما يلتزم بذكرها بما هي نظرية عرفها الانسان في
زمن قريب. و لما لم تكن هذه الاطروحة قائمة على اساس واقعي من الناحية
الفلسفية، فمن الطبيعي ان تجنح نحو الخيال من الناحية الاجتماعية و الناحية
السياسية، و قد كانت فكرتها عن الأممية من جملة ذلك الخيال، ذلك ان فلسفة
مادية، ايا كانت لا تستطيع ان تكون أطاراً جامعاً للمجتمع البشري، و اعطاؤها هذا
الاعتبار بمثابة وصف الشي‏ء بعكس ما يقتضيه، فإن الفلسفة المادية تنطوي على
خطوتين متمازجتين، انكار الالوهية من جهة و اثبات الاصل المادي للكون و
الحياة من جهة ثانية، و كلتاهما تؤديان إلى انكار الوحدة البشرية، فانكار الالوهية
يعني في مدلوله الاجتماعي و السياسي انكار الاطار الواحد الذي يمكن ان تجتمع
عنده البشرية، و اثبات الاصل المادي للكون و الحياة يعني في مدلوله الاجتماعي و


|35|

السياسي ربط كل فرد من البشرية بالمنشأ المادي القريب منه بنحو منفصل عن
الفرد الآخر، فالالماني يرتبط بالارض الالمانية و الدم الالماني باعتباره المنشأ
المادي له، و الفرنسي كذلك، و هكذا الأمر بالنسبة إلى الآخرين، و هذا يعني في
النتيجة ان النهج القومي و الوطني هو الخيار الطبيعي و الوحيد لكل فلسفة مادية، و
ان التنظير المادي باتجاه الغاء هذا النهج و اثبات نهج اممي يكشف عن وجود رؤية
خيالية و مغالطة جوهرية كامنه في عمق تلك الفلسفة المادية، و هذا ما تصدت له
الكتب المختصة بنقد الفلسفة الماركسية و اثبتت وجوده، و من حق الباحث ان
يسأل الماركسية عن الجانب الذي تؤمن به كأطار جامع سيأخذ على عاتقه مهمة
حمل العامل الالماني - مثلاً - عل انكار خصوصيته الالمانية و تجاهل ما توفره له -
حسب اعتقاده - من امتيازات مادية و في مقدمتها حقه - الذي يدعيه - في قيادة
العالم و انشاء الحضارة، و الاعتقاد بدلاً عن ذلك بالمساواة بينه و بين العامل
الاسيوي و الآخر الافريقي؟ فان ادعائها بالاممية يقتضي منها بيان الظمانات
الموضوعية التي ستتكفل باذابة الشعور القومي الممتاز عند القوميات التي تعتبر
نفسها ممتازة على ما سواها و ابدالها بشعور انساني بالمساواة، و هذه مسألة
اخلاقية روحية ليست من سنخ الفكر المادي، بل هي من سنخ الفكر الديني.


3. دولة عالمية على اساس عاطفي

و هذه الصيغة ليس لها نموذج قائم فعلاً، و انما هي مستفادة من نداءات بعض
المفكرين وساسة العالم الذين هالتهم الصراعات القومية، و مساوي‏ء التمييز
العنصري في العالم، و نتائج الحربين العالميتين الاولى و الثانية، و ارقام التسليح
العسكري و ما ترصد له من ميزانيات مذهلة على حساب الاكثرية الجائعة من
سكان العالم، فناهضوا القومية، و نادوا بإقامة حكم عالمي واحد تنطوي تحته كافة
المجتمعات البشرية، واعتبروا هيئة الامم المتحدة صيغة قابلة للتطوير بحيث تكون
بمستوى الدولة العالمية المنشودة.


|36|

و قد اتضح مما سبق ان هذه صيغة عاطفية لا تتضمن ضمانات موضوعية كافية
للتطبيق. والاسوأ من ذلك أنهاسرعان ما تتحول إلى وسيلة خداع و تمويه تتكي‏ء
عليها القوميات الغالبة للهيمنة و النفوذ في داخل القوميات المغلوبة، و اكبر شاهد
على ذلك اعطاء حق الفيتو للدول الكبرى الخمس في العالم، و خضوع الامم
المتحدة للسياسة الامريكية الى حدّ كبير خلال السنوات الأخيرة التي اعقبت انهيار
الاتحاد السوفيتي و بروز امريكا كقوة طاغية في العالم.


4. دولة عالمية على اساس عقلي

و لهذه الدولة مثال واحد هو الذي نادت به المدرسة الرواقية في اثينا في القرن
الرابع قبل الميلاد، فإنه يكاد يجمع علماء السياسة و القانون، و مؤرخوا الفكر
السياسي على ان المدرسة الرواقية هي أول مدرسة فكرية وضعية نادت بفكرة
الدولة العالمية، و ذلك على يد مؤسسها زينون حدود عام 340 ق.م الذي كان
يدرس في رواق «أستوا» بأثينا فجاءت التسمية بالرواقية من هذه الجهة.

و خلاصة فكرة الدولة العالمية في المدرسة الرواقية، ان هذه الدولة ترتكز على
اساس ان هناك طبيعة مشتركة بين افراد الجنس البشري، و ان هذه الطبيعة من
شأنها ان تؤدي الى اخوّة انسانية شاملة، تقوم على اساس فكرة «المساواة العالمية»
بين هؤلاء الأفراد، و على اساس ذلك ظهرت فكرة «القانون الطبيعي» الذي نادت به
المدرسة الرواقية كدستور للدولة العالمية بوصفه القانون الثابت الصالح لكل زمان و
مكان، لأنه انما يصدر عن طبيعة الاشياء، و فكرة القانون الطبيعي هذه قد تقاذفتها
الغايات المختلفة، فبدأت فكرة تأمل فلسفية، ثم لم تلبث ان تحولت إلى فكرة
قانونية، ثم صارت فكرة دينية مسيحية، و أخيراً اتخذها الفلاسفة و الكتاب اداة
لزلزلة الطغيان، فمهدوا بها للثورة الفرنسية.

و تستهدف الدولة العالمية الرواقية تحقيق السعادة للفرد على اساس الاكتفاء
الذاتي، والتدريب الشديد على الفضيلة وقيم الخير استناداً الى الايمان بوحدة


|37|

الطبيعة و كما لها، و تقبل ارادة اللّه و الاستسلام لها، والمساواة هي الاساس العارم
للدولة العالمية، فلا فرق في هذه الدولة بين فقير و غني، و حسيب و غير حسيب، و
يوناني و غير يوناني، و لا يستثنى من هذا الاساس سوى التفرقة بين العاقل
والاحمق، و هو استثناء حتمي تفرضه الطبيعة الفكرية للدولة العالمية الرواقية.[1] و
رغم التنظير الفلسفي الذي ازدانت به هذه الصيغة و تظافرت عليه جهود عدد كبير
من الفلاسفة الرواقيين مدّة طويلة إلّا أنها من الناحية العملية لا تمتاز بشي‏ء مهم
على الصيغة العاطفية، فإن المسألة الاساسية التي نواجهها في اقامة الدولة العالمية
ليست مسألة الطرح العاطفي و لا التنظير الفلسفي و انما هي مسألة الضمانات
العملية التي تجعل الخواص العقلية و العاطفية و الروحية و الاخلاقية هي المتحكمة
في الشخصية الانسانية بحيث يكون الانسان تابعاً لها و قادراً بفضلها على التحكم
بخواصه الارضية و الغريزية و منها شعوره القومي و القبلي و الأسري و الوطني،
فإن مشكلة الانسان الدائمة هي مشكلة الخواص الارضية التي تستغل قربها منه و
شدّة تأثيرها عليه، و شدّة تحسسه بها، فتهيمن عليه و تخضعه لتأثيرها حتى
تتهمش خواصه العقلية و الروحية، فتراه يلهج بالمساواة و يطبق الانانية، يدعو إلى
الغاء الامتيازات القومية لكنه يطبق العصبية، و مثل هذه المشكلة لا تحل بالنصائح
الوجدانية، و الدعوات النظرية و انما تحتاج الى قوة فعالة نافذة تدخل إلى عمق
النفس و تعيد التوازن اليها، أضافة إلى ذلك نلاحظ إن المدرسة الرواقية اتخذت من
فكرة القانون الطبيعي أساساً للمناداة بالدولة العالمية، و اعتبرته بمثابة الضمانة
الكافية لإقامة مثل هذه الدولة، غير ان مؤرخي الفكر السياسي اشاروا إلى ان هذه
الفكرة شهدت تحولات متعددة، فإنها بدأت فكرة فلسفية، ثم اصبحت ذات صبغة
مسيحية، و أخيراً دخلت معترك الثورة و اعتبرت من جملة الاسس الفكرية للثورة
الفرنسية، و هذا يعني ان اساس الدولة الرواقية لم يثبت على حالة و احدة، و انه


(1). استفدنا هذه الخلاصة بشكل اساس من كتاب علم السياسة لابراهيم درويش / ص 75-65ط. القاهرة.


|38|

قابل للاصطباغ بألوان متعددة بينها اختلاف جوهري.

و هذه القابلية الكبيرة على التلون ناشئة من ان فكرة القانون الطبيعي ليست
محددّة تحديداً كافياً، بل هي بطبعها فكرة فضفاضة تتسع لمعانٍ متعددة و قابلة
للتلون بالوان كثيرة، بمعنى أنها فكرة غير مضمونة، و بالتالي فالدولة التي تقام عليها
سوف لن تكون ذات اهداف و خصائص مضمونة.


5. دولة عالمية على اساس ديني

لكي ندرس هذه الصيغة و نحكم لها أو عليها لابد و أن نبدأ من النقطة التي تمثل
نقطة الانطلاق الاولى للدين على الساحة السياسية.

فإن الدين كمقولة ربانية سماوية عُلوية يبدأ مسيرته السياسية على اساس
تحكيم التوحيد كقيمة سماوية مطلقة تمتلك حقاً ذاتياً في توجيه الانسان والزامه
بما تشاء من الالتزامات و المناهج و الاتجاهات في مختلف مجالات الحياة، و هذا
المعنى مندك في عمق الدين، بحيث يفقد الدين رسالته بدونه، قال تعالى‏: (و ما
خلقت الجنّ و الانس إلّا ليعبدون)
[1].

و العبادة مفهوم روحي شمولي يبدأ من خضوع العبد لربه و ينتهي بمشروع
اجتماعي سياسي متكامل. فالصلاة التي تبدو عملاً فردياً بين العبد و ربه سرعان ما
تأخذ طريقها إلى الساحة الاجتماعية حتى تبلغ ذروتها في صلاة الجمعة التي هي
عبارة عن تظاهرة سياسة اسبوعية متكررة يعلن فيها المجتمع عن انسجامه و
اتحاده على اساس الدين، و عن استعداده المستمر للدفاع عن كيانه السياسي و
الديني، فامام الجمعة يتكي‏ء على سيف، و جمهور الجمعة الذين يجب حضورهم
فيها ليسوا نساءاً و لا اطفالاً و لا كهولاً بل شباب و رجال مقتدرون، و خطبتا
الجمعة بمثابة الركعتين المحذوفتين من صلاة الظهر التي يؤتى‏ بالجمعة - و هي


(1). الذاريات / 56.


|39|

ركعتان - بدلاً عنها كتتمة لهاتين الخطبتين العباديتين، و يقرأ امام الجمعة في ركعتي
الجمعة بعد الحمد في الركعة الاولى سورة الجمعة و هي مخصصة للتنديد باليهود و
تحذير المسلمين منهم كأعداء للنظام الاسلامي من الخارج، و يقرأ في الركعة الثانية
بعد الحمد سورة «المنافقون» و هي مخصصة للتنديد بالمنافقين و تحذير المؤمنين
منهم كأعداء للنظام الاسلامي من الداخل. و هكذا يبدأ الدين كإعلان عن التوحيد،
ثم ينتقل بهذا الاعلان إلى الساحه الاجتماعية ليدخلها عبر مفهوم العبادة، ثم ينتزع
من العبادة مشروعه الاجتماعي و السياسي المتكامل، فالصلاة عمود الدين، و
صفتها هذه تعني أنهامنطلق التغيير الشامل، أي ان العبادة مفهوم شمولي بطبعه، و
ليس مفهوماً انعزالياً فردياً كما يقول العلمانيون، و هذا المفهوم الشمولي هو النواة
الاساسية للمشروع السياسي الذي جاء به خط النبوات و الرسالات السماوية، و
من حوله تدور سائر الاحكام الشرعية ذات الصفة السياسية، قال تعالى‏: (الذين ان
مكناهم في الأرض اقاموا الصلاة و ءاتَوُ الزكوة و أمروا بالمعروف...)
[1].

و هذا يعني‏ان المشروع السياسي للدين يتكي‏ء على قاعدة عبادية، والقاعدة
العبادية تستند إلى رؤية كونية توحيدية، بحيث ان السياسة تعني في المفهوم الديني
عملاً عبادياً يستهدف اثبات حاكمية التوحيد على الانسان و نفي حاكمية ما عداه،
و بالتالي فكل شي‏ء من مفاهيم و احكام الدين يعود إلى مقولة التوحيد الاساسية
«لا إله إلّا اللَّه»، و في عمق هذه المقولة تكمن امتيازات الدين على ما سواه، و
حينما ينادي الانبياء و حملة الرسالات السماوية و اتباعهم بتطبيق الدين كمنهج في
الحياة فانما يريدون للإنسان ان يحضى بهذه الامتيازات التي لايجدها في غيره.

و تأتي الصفة العالمية للدولة الدينية مثالاً بارزاً لما يقدمه الدين من امتياز
حقيقي لا يجده الإنسان في غيره، فهي ليست شعاراً عاطفياً، و لا عنواناً طارئاً، بل
دعوة مضمونة صادقة و جدّية، لأنها مستمدة من عمق التوحيد، و مضمونة بما


(1). الحج / 41.


|40|

للتوحيد من قدرة ذاتية خلاقة على الزام الانسان و توجيهه و تهذيبه، بحيث ان نفي
العالمية لا يعني افتراق الدولة الدينية عن حكم او مفهوم من احكام او مفاهيم
الدين، و انما يعني بالاساس عدم صدقها في ادعاء اصل الصفة الدينية التوحيدية.

ذلك ان الصفة العالمية للدولة الدينية لا تنبع من حكم شرعي جزئي، و انما تتبع
من الرافد التوحيدي نفسه، فالقاعدة التوحيدية لهذه الدولة تجعلها محكومة بنظرة
عالمية تجاه من يقع في دائرة خطابها الفكري و السياسي، بحيث تهمل الخصائص
المحلية من اللون و اللغة و الوطن و القومية، و تتجه بكل ثقلها نحو الخصائص
الانسانية المشتركة و المتأصلة في الانسان كالعقل و الفطرة و الاخلاق و الروح و
القيم المعنوية، فخطابها ارقى من خطاب من لا يميّز بين انسان و آخر على اساس
اللون و القومية و سائر الخصائص المحلية، و انما هو خطاب من لا ينظر إلى هذه
الخصائص اصلاً، و يركز نظره على الخصائص المتأصلة و المشتركة في افراد النوع
البشري بإعتبارها الجوهر الثمين الذي صار به الانسان انساناً.

بمعنى‏ ان الرؤية الكونية التوحيدية تنعكس في الواقع السياسي إلى رؤية سياسية
توحيدية تحمل كل خصائص الرؤية الكونية التي انبثقت عنها، فلما كانت تلك
الرؤية الكونية هي رؤية الاله الذي هو خالق الجميع من مادة واحدة و بكيفية
واحدة و هو الرب الذي يدير شؤون الجميع و ينظر اليهم نظرة واحدة غير متمايزة،
فليس بوسع الرؤية السياسية المنبثقة عنها إلّا ان تكون عالمية في مداها الجغرافي و
محتواها الاخلاقي، و من هنا ينبع الامتياز الاساسي للدولة الدينية في بعدها
العالمي، فالدولة الدينيةترى نفسها ملزمة بالبعد العالمي بقدر ما هي ملزمة بأصل
التوحيد، بينما الدولة الوضعية التي تختار المنهج العالمي في سلوكها لاترى نفسها
ملزمة بهذا المنهج. و انما هو امر تحبذه و تتقبله بإختيارها، و يمكنها في يوم ما ان
تتحايل عليه أو ترفضه عندما لا تجده موافقاً لمصلحة من المصالح، أو تجد ان
المصلحة تقتضي تسخير هذا المنهج كغطاء عاطفي يمكن تمرير اغراض عدوانية


|41|

على الامم الاخرى من خلاله.

الدولة الدينيةترى نفسها مسؤولة امام اللَّه سبحانه و تعالى عن بعدها العالمي،
بينما تنفي الدولة الوضعية وجود قوة اعلى تكون مسؤولة امامها، و هي ليست
مسؤولة امام احد في قضية من قضاياها.

و بعد المسألة التوحيدية، تأتي المسألة العبادية، فالعبادة حلقة وسطى‏ بين عقيدة
التوحيد و بين السياسة و المجتمع، وظيفتها ترويض النفس الانسانية و تربيتها على
الخضوع و الاذعان امام التوحيد و ما ينبثق عنه من قيم معنوية اخلاقية روحية، و
تقبل حاكمية هذه القيم و التبعية لها كتعبير طبيعي عن تقبل حاكمية التوحيد و
التبعية له، و هذا هو المفهوم الشمولي الطبيعي للعبادة، خلافاً للمفهوم الفردي
الانعزالي المصطنع الذي يروج له العلمانيون و يرونه الخلاصة الاخيرة لدور الدين
في الحياة. بما يعني في النتيجة ان الدولة الدينية تطل على الساحة السياسة من
شرفة العبادة. و تنظر اليها من زاوية هذا المفهوم الحيوي الذي يتصدى للسياسة بما
هي نقطة صراع الارادات، و ميدان المنازلة بين الحاكميات المختلفة، ليهذبها و
يقوّمها و يصلحها و يخضعها لحاكمية التوحيد بالنحو الذي يهي‏ء النفس و المجتمع
للالتحام مع الدولة الدينية في كل ابعادها و طروحاتها، و من جملتها البعد العالمي
الذي قد تستثقله النفس في الوهلة الاولى لما يتضمنه من عب‏ء و التزام بتكاليف قد
تكون باهضة الثمن في بعض الحالات، لكنها حينما تمر بدورة ترويضية تهذيبية
تربوية عبر الشعائر العبادية سوف لا تكون على اتم الاستعداد لتقبل هذا البعد فقط
و انما ستطرحه كمطلب و شعار تنادي بتحقيقه، و تطالب الدولة بانجازه ايضاً.

و هكذا فالبعد العالمي للدولة الدينية - بالمعنى الاسلامي للدين - يستند الى
رصيد روحي خلّاق و فعال و متصل بالقاعدة التوحيدية، بما يتيح لنا الجزم بأن
الدولة الدينية اما لا تكون، و اما تكون دولة عالمية بنحو حتمي، و هذه النتيجة
الحاسمة تسلط الضوء على حقيقة المسلك السياسي للدولة الدينية المزعومة في


|42|

الديانتين اليهودية و المسيحية.

فالفكر السياسي اليهودي يقوم على اساس الزعم بأن اليهود هم شعب اللَّه
المختار، و ان السيادة السياسية على العالم حق طبيعي لهم، و ان المفهوم الصحيح
للحكومة هو ان يخضع العالم لحكومة واحدة هي حكومة اليهود العالمية، و ان
التاريخ سائر بهذا الاتجاه، و سيشهد في نهايته ظهور هذه الحكومة و تحققها على
ايدي اليهود، و لا يحتاج الانسان إلى مزيد من التأمل في هذه الفكرة حتى يحكم
بانها فكرة عنصرية تتناقض مع الدين و مع المعنى العالمي في آن واحد، و انما الذي
يحتاج إلى التأمل هو كيفية ظهور فكرة عنصرية بلباس ديني؟

فقد عاش اليهود جماعة معزولة مقهورة مضطهدة تحت الحكم الفرعوني، و
ارادت السماء ان تنتصر لهم، و ان تتخذ منهم انصاراً لقضية التوحيد و تجندهم في
المعركة ضد الشرك، فبعثت فيهم انبياء و مكنت لبعض هؤلاء الانبياء فكانوا حكاماً
و ملوكاً في الارض.

لكن المشكلة التي ظهرت في هذه الجماعة القومية الخاصة، ان حالة التقوقع و
الانعزال كانت و بسبب شدّة المأساة التي تعرضوا لها، و طول أمدها، قد تأصلت
فيهم و أثّرت في واقعهم النفسي و الذهني تأثيراً عميقاً بحيث صار حالة موروثة
عبر الاجيال، و لم تسمح لهم بالانفتاح على النافذة السماوية التي اطلّت عليهم،
واوحت لهم حالتهم هذه بدلاً عن ذلك بالتعصب القومي، و كان من فرط هذا
التعصب فيهم أن جعلوا القومية الاسرائيلية اساساً في فهم الدين الذي اطلّ عليهم، و
كان من نتائج تحكيم القومية في فهم الدين ظهور فكرة شعب اللَّه المختار الذي
يستحق وحده السيادة والحكم على العالم، ذلك انهم حرّفوا الامتيازات التي يعطيها
الدين لخط النبوات و انصار التوحيد في الارض، و صوروها بأنها قد منحت لهم
دون سواهم، و انهم ورثة هذا الخط، و بالتالي فهم الاوصياء على الدين و ان على
العالم ان يطيعهم و يذعن لسلطانهم .


|43|

اذن فالدين لم يكن عنصرياً، و لم يكن اليهود اتباعاً للدين حتى نحسب
عنصريتهم عليه و انما كانوا منذ البدء جماعة منعزلة عنصرية أبت إلّا أن تبقى على
هذه الحالة، و رفضت ان تخضع لتأثير الوحي و النبوة، بل اصرت على ان تستثمر
الدين استثماراً عنصرياً بشعا لصالحها.

و لذا كان موقف النبوات منهم شديداً، و عقوبات السماء لهم عديدة، و أخيراً
قررت السماء الاعلان عن رسالة جديدة هي رسالة عيسى المسيح عليه السلام
التي ركزت تركيزاً شديداً على القيم المعنوية و الروحية لتنتشل الواقع الاجتماعي
من الهوّة المادية السحيقة التي كان اليهود قد وقعوا فيها بنحو خاص و سائر
المجتمعات التي من حولهم بنحو عام، و تركيز النبوة الجديدة على الجانب المعنوي
و الاخلاقي لا يعني بحال من الاحوال انصرافها عن الجانب السياسي، لان خط
النبوات يرتكز على خصائص مشتركه ثابتة في كل نبوة، والجانب السياسي المتمثل
بالحكم و الدولة هو احد هذه الخصائص الثابتة قال تعالى‏: (.. فبعث اللّه النبيين
مبشرين وَ منذرين و انزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)
[1]،
و السياسة هي الساحة التي تظهر فيها اكثر و اشد و اعمق الاختلافات البشرية.

و اذا كانت اليهودية قد وقعت في الانحراف المادي و العنصري، فإن المسيحية
وقعت في الانحراف الانعزالي الرهباني الذي يصور الدنيا خطيئة لا تقبل الاصلاح،
فعلى المؤمنين الانعزال عنها انعزالاً تاماً ليحققوا في ذواتهم النقاء و الطهر و
التزكيةالمطلوبة.

و بمرور الزمن دخلت في موجات متتالية من التحريف و التزييف، فمنذ القرن
الرابع الميلادي بدأت المسيحية تدخل عالم السياسة بمباركة من الامبراطور
الروماني الذي احس بالحاجة إلى المسيحية لتكون اداة في توسيع سلطانه و نفوذه
و استقرار امبراطوريته، و مع ظهورها الجديد على مسرح السياسة بدأت الكنيسة


(1). البقره / 213.


|44|

تشعر بمكانة هامة. و بالتدريج بدأت تسعى لتأليف فلسفة سياسية مناسبة من
مجموع المعطيات الفكرية القائمة على الساحة، فأخذت فكرة القانون الطبيعي عن
الرواقيين، و صبغتها بصبغة دينية، و اصبحت تعني من منظار الكنيسة ذلك القانون
الالهي الذي يسمو على القانون الوضعي، و انه من الهام اللَّه باعتباره خالق الطبيعة،
و كان هدف الكنيسة من وراء ذلك تمكين البابا من سلطان الملوك، أي اخضاع
الدولة إلى الكنيسة.

و من هنا يعتقد البعض ان بعض تعاليم القديس بولس عبارات مأخوذة من
الرواقيين ككلمته التي وجهها إلى أهل اثينا و يقول فيها: «ليس هناك يهود و اغريق
ولاحرولاعبد و لا ذكر و لا انثى فكلهم سواء في يسوع المسيح» بأنهاعبارة وردت
حرفياً في تراث الراوقيين[1].

و في القرن الرابع الميلادي استحدث القديس اغسطين فكرة الامم المسيحية،
واشترط في الدولة ان تقوم على اساس العقيدة المسيحية كرابطة مشتركة و كشرط
لتحقيق العدالة المطلوبة من كل دولة.

و في القرن الثالث عشر انتهى‏ دانتي «1265 - 1321 ه'» إلى ان الجنس البشري
كله يكون مجتمعاً واحداً تحت رئاسة حاكم واحد له السيطرة الكاملة على جميع
الناس، و تتركز في يده السلطة فتصبح سلطة واحدة مثل سيطرة اللّه على الطبيعة،
وارتأى ان الامبراطورية الرومانية هي المحاولة الخامسة في التاريخ لإنشاء
امبراطورية عالمية، و أنها الوحيدة التي كتب لها النجاح و السيادة على العالم، و هو
يعتقد بالامبراطورية المثالية كدولة عالمية مثالية[2].

هذه فكرة مختصرة عن المشروع السياسي للكنيسة، و قد غدا واضحاً انه
مشروع الكنيسة بما هي مؤسسة ظهرت في ظروف فكرية و سياسية معينة، و هي


(1). علم السياسه / ص 78.

(2). المصدر نفسه / ص 92-90.


|45|

لا تمت إلى المسيح(ع) و لا إلى رسالته و نبوته بصلة، و قد استمد وجوده و
استمراره و تطوره من عوامل غير دينية، فنجد - مثلاً - البعد العالمي الذي نعتني
بدراسته قد بدأ في هذا المشروع فكرة مستعارة من المدرسة الرواقية، ثم اخذ
بالاشتداد و التعمق لتلبية حاجة الامبراطورية إلى النفوذ الواسع، و لمواجهة الزحف
الاسلامي الذي كان يهدد اوروبا سياسياً و دينياً، و كانت اوروبا تشعر ازاءه بضرورة
مواجهته من خلال بعد عالمي مضاد، و لم تكن تملك وسيلة اليه سوى التأكيد على
كيانها الامبراطوري حتى نادت في عام 800 م بشارلمان كأمبراطور مسيحي على
كل اوروبا، و ذلك عندما كان العالم الاسلامي في ذروة سلطانه السياسي الممتد من
الصين و حتى مشارف اوروبا.

و هكذا لم يتح للساحة الانسانية ان تنعم بمشروع سياسي ديني يرفع لواء دولة
عالمية حقيقية، فالدولة العالمية بالمفهوم اليهودي تعني حكومة شعب اللّه‏ المختار
دون سواه على العالم، و هي بالمفهوم المسيحي تعني خضوع العالم لسلطة الكنيسة
بكل ما تجسّده من تشويه للدين و التوحيد، و كلاهما غريب عن الدين، بعيد عن
حقيقته فكان لابد من انتظار مبادرة سماوية جديدة تطلق مشروعاً صادقاً في
هذاالاتجاه.

فظهر الاسلام في الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي مبادرة سماوية
جديدة، و كان هو المبادرة الخاتمة، و خاتميته حقيقة تعني كونه الحلقة الاكمل و
الاتم في خط النبوات، و الكمال حقيقة سارية تنطلق من جذور الشي‏ء و اعماقه
حتى تتبدى و تمتد في امتداداته و آفاقه، بمعنى ان كمال الاسلام المتجلي في
التشريع مستمد من كمال عقيدته، و كمال عقيدته مستمد من كمال فكرة التوحيد
لدينه، و لم تنحرف التجربة المسيحية و من قبلها التجربة اليهودية على الصعيد
السياسي و التشريعي إلاّ بعد ما جرى تحريف فكرة التوحيد في كلتا الديانتين، و
من هنا كان الاسلام شديد الحرص على قاعدته التوحيدية، شديد التأكيد على ابراز


|46|

رؤية كونية توحيدية خالصة و نقية من الشوائب و ذات محتوى فعّال قادر على
تفجير الطاقات الكاملة في الانسان، ذلك ان قوّة المشروع الاجتماعي و السياسي
الاسلامي ستعتمد على قوّة و فعالية هذه الرؤية الكونية، و البحث هنا ليس بصدد
شرح كل تفاصيل و ابعاد العلاقة بين التوحيد كرؤية كونية و بين قوة المشروع
الاجتماعي و السياسي الاسلامي، و انما نركز على البعد العالمي من الاسلام بوصفه
موضوع هذا الكتاب، و هو مما يصلح للإستشهاد به كمثال على تلك العلاقة في
سائر ابعاد المشروع الاجتماعي و السياسي الاسلامي.

ان مفهوم الدولة العالمية يتمثل ببساطة ببداية اخلاقية هي المساواة، و بنهاية
جغرافية سياسية هي السلطان السياسي الشامل لكل افراد البشرية، و التاريخ
السياسي البشري كان يدور منذ نبوة نوح و حتى عصر النهضة الاوروبية الحديثة
التي ابدعت فكرة الدولة القومية كبديل عن الدولة العالمية بين المناداة بهذه البداية و
المناداة بتلك النهاية، و كانت نقطة الضعف البشري الاساسية تتمثل بالعجز عن
الجمع بين الندائين في اطار نظري فعّال و حقيقي، و كان هذا التفكيك بين البداية
الاخلاقية المتمثلة بالمساواة و النهاية السياسية المتمثلة بالسلطان السياسي العالمي
يؤدي إلى انحراف مسيرة النداء بكل منهما، فالنداء بالمساواة تحول إلى نداء محلي
خاص بنطاق قومي معين، و النداء بالسلطان العالمي تحول إلى نداء عدواني يعني
اخضاع الآخرين لسلطة الانا القبلية أو القومية و اشباع غريزة التسلط إلى اوسع
الحدود، و في ذلك دلالة مثلى على ان الجمع بين الندائين لا يتحقق إلّا في اطار
سماوي توحيدي فعّال. و ان الدولة العالمية الحقيقية لا تكون إلّا اسلامية، كما ان
الدولة الاسلامية لا يمكن ان تكون إلا دولة عالمية، و فيه دلالة أخرى على اصالة
النداء بالمساواة و النداء بالسلطان السياسي الشامل لكل افراد البشرية في النفس
الانسانية، و بمعنى جامع، اصالة النداء بالدولة العالمية المتكونة منهما فيها، سوى ان
هذا النداء الوجداني ينحرف عن مسيره الطبيعي كلما ابتعد الانسان عن السماء و


|47|

التصق بالارض، و يواصل نهجه المستقيم كلما تطابق مع السماء و اتخذها قاعدة
لانطلاقه، و هذا يعني في النتيجة ان المظاهر المنحرفة تعود إلى اصل صحيح، فكما
أن عبادة الاصنام تدل على ان النفس تبحث عن التوحيد. و ان هناك عوامل معينة
تقودها خطأً إلى الاصنام بدلاً عن التوحيد كذلك حصر النداء بالمساواة بنطاق
وطني او قومي معين و عدم السماح له ببلوغ الافق البشري الى نهايته، و تحويل
النداء بالسلطان السياسي الشامل بكل افراد البشرية من مسيره الانساني العادل إلى
اتجاه قومي عمرواني تعصبي يعبر عن نفسه بصيغ الحكم الامبراطوري تارة، و
بالاستعمار العالمي تارة اخرى و بالعوالمة و القرية العالمية الواحدة ثالثة، يعني ان
النداء بالدولة العالمية المتكون من مجموع هذين الندائين أصل فطري تبحث عنه
النفس الانسانية، و ان الصيغ الامبراطورية التي عرفها الانسان منذ فجر التاريخ في
مصر و العراق و فارس و الروم، و عرفها الانسان الحديث في الامبراطورية
البريطانية، و الامبراطورية الالمانية، و الامبراطورية الصينية، و الامبراطورية
الفرنسية و غيرها، و كذلك الصيغة الاستعمارية الحديثة، و صيغة العولمة التي ينادي
بها الامريكان حالياً، انما هي صيغ انحرافية تعبّر عن ذلك الاصل بنحو مغاير
لحقيقته، و ليس ضرورياً ان يكون الاصل الذي تعبر عنه هذه الصيغ المنحرفة قائماً
في مؤسسي ورواد هذه الصيغ، بل يكفي حضوره في المجتمعات البشرية التي
تخضع لحكمها و تخدع عن طريق رفع العالمية كشعار يدغدغ عواطفها الانسانية
بالنحو الذي يتيح للمؤرخ فيما بعد أن يستنبط أن قيام تلك الصيغ على أرض الواقع
كان مستمداً من ذلك الاصل الفطري الذي جعل تلك المجتمعات تسترخي امام
صيغ حكم ترفع لافته مطابقة له، و كلما تعرضت لظلم او عدوان ندّدت بتلك الصيغ
و اعتبرتها منسلخة عن ذلك الاصل. بمعنى ان الشعور الانساني المشترك لدى كل
افراد الاسرة الانسانية كان يمثل الارضية العاطفية و السياسية الكافية لقيام انظمة
حكم ترفع شعار الدولة العالمية مع فارق بين دولة عالمية صادقة و اخرى كاذبة،


|48|

يتمثل في أن الكاذبة تقيم أمرها على اساس ان المجتمعات المحكومة تحمل شعوراً
انسانياً مشتركاً يمكن تحويله من خلال وسائل ترغيبية و ترهيبية و تضليلية
مختلفة إلى رصيد سياسي مساعد لها، بينما تقيم الدولة العالمية الصادقة أمرها على
اساس نية صادقة في حذف الفوارق القومية و القبلية، و النظر لجميع المواطنين على
اساس المساواة، فنحن نؤمن بأن كل أنسان يحمل عاطفة إنسانية صادقة و لكن
الواقع القائم يرغمنا على الايمان بأن العاطفة التي يحملها الإنسان الابيض - مثلاً -
ليست كافية لأن تكون اساساً في نظام حكم عالمي بحيث يتنازل هذا الانسان عن
غروره القومي و يتصور نفسه مساوياً للأنسان الافريقي كما يتساوى الابيض مع
الابيض، و يتخلى عن العرش العرقي الذي يقول له: انت كنت و لا زلت و ستبقى
سيد البشرية.

و لذا تحتاج الدولة إلى اساس اعمق وارسخ من العاطفة حتى تكون عالمية
بالمعنى الحقيقي، و قد يقال: ان الاساس الاعمق هو الاساس العقلي، بمعنى ان
الدولة العالمية هي الدولة الفكرية المستندة إلى الحقائق العقلية الثابتة و المشتركة
بين افراد البشرية، فاذا نادت هذه الدولة بالمساواة بين الابيض و الاسود فإنها لا
تنادي بشعار عاطفي و انما تنادي بحكم عقلي يذعن له جميع العقلاء.

و مما لا شك فيه ان الاساس العقلي اعمق من الاساس العاطفي، غير أن هذا
الاساس هو الآخر ليس كافياً لحلّ المشكلة، و الملاك في كون الاساس كافياً لبناء
الدولة العالمية عليه يتمثل في مدى قدرته على انجاز التحول الاخلاقي المطلوب
في انسان الدولة العالمية بحيث تتأصل الخواص الانسانية الرفيعة فيه و تصبح هي
الحاكمة و الموجهة له، و تصبح الخصائص الارضية في شخصيتة تابعة و محكومة و
خاضعة لإشراف و توجيه الخواص الانسانية، العقلية و العاطفية، بمعنى ان الانسان
لو يُترك على الحالة الطبيعية التي هو عليها لا يتاح لخواصه العقلية و العاطفية
التحكم في شخصيته، و لا يتاح لها القدرة على تهذيب غرائزه و سائر خواصه


|49|

الارضية، بل تصبح هذه الغرائز و الخواص الارضية في الاعم الاغلب هي
المتحكمة بحيث تتهمش الخواص العقلية و العاطفية و الروحية.

و في مثل هذه الحالة التي يفتقد فيها الانسان الى التوازن المطلوب يحتاج إلى
قوة تدعم الخواص العقلية و الروحية و العاطفية إلى الحد الذي تكون معه هي
القدرة الحاكمة و الموجهة للشخصية الانسانية، فإذا حصلت هذه القوة، و تحققت
هذه القدرة يصبح التحول الاخلاقي المطلوب ممكناً، و يكون الاساس المطلوب
لبناء الدولة العالمية قد توفر، و سيكون انسان هذه الدولة هو ذلك الانسان القادر
على ان يساوي بين نفسه و بين الانسان الآخر من الزاوية القومية و الوطنية، مهما
أغرته هذه الزاوية بإمتيازات تاريخية و فروق حضارية، فنحن لا ننكر دور العاطفة
و العقل في بناء الدولة العالمية، و انما نراهما بحاجة إلى دعم و تفعيل و زخم شديد
بحيث يهيمنان على الشخصية الانسانية و يتحكمان بخواصها المحلية، من القومية و
الوطنية و القبلية و الأسرية، و مثل هذا الدعم لابد و ان يتصف بخصال خمس هي:

1. ان يكون نابعاً من خارج اطار الشخصية الانسانية، اذ لو كان هذا الدعم
موجوداً في داخل الانسان لما ظهرت المشكلة.

2. ان يكون نابعاً من قدرة اعلى من الانسان، اذ لو كان نابعاً من قدرة مساوية او
اقل من قدرته لما حلّت المشكلة. و لما ظهرت الحاجة اليه.

3. ان يكون هذا الدعم فعّالاً بنحو يتناسب مع القدرة التي نبع منها، و مع
المشكلة التي يراد حلها بإخضاعها لتأثيره.

4. ان يحضى هذا الدعم اضافة إلى صفة الفعالية الشديدة، بصفة الالزام بحيث
يشعر الانسان ازاءه بالتبعية، و يرى له الحق بالالزام.

5. ان ينطوي هذا الدعم على محتوى روحي و عقلي و اخلاقي اعلى مما هو
موجود في الانسان، اذ لابد من وجود سنخية و اشتراك جوهري بين الداعم و
المدعوم، و لا بد و ان يكون الداعم مشتملاً على درجة اعلى من ذلك المحتوى


|50|

بحيث اصبح ملجأً و ملاذاً للمدعوم.

و هذه الشروط الخمسة منتفية عن جملة المذاهب الوضعية، و المبادي الفلسفية
و النظم الاجتماعية، و الاطر القانونية التي يبدعها الانسان، لأنها جميعاً تحكي
حقيقة انسانية، و بالتالي فهي فاقدة للشروط الخمسة المذكورة التي لا يتحقق
بعضها، و لا تجتمع كلها إلّا في الدين بوصفه القناة الروحية التي توصل الإنسان
بالمبدأ الاعلى، فيتزود من القدرة الازلية و يخضع لتأثيرها، فتشتد بذلك خواصه
الروحية و العاطفية و العقلية بما تستمده منها عن دعم مؤكد، و تتهذب خواصه
الارضية و الغريزية و تتضائل امام تعاظم المدّ الروحي.

و هذا وجه آخر لما قررناه آنفاً من ان الدولة العالمية لا يمكن ان تقام الاعلى‏
اساس ديني، و من هنا فالدولة الاسلامية ليست دولة فكرية كما وصفها الاستاذ
ابوالاعلى المودودي[1]، و انما هي دولة عقائدية، الدولة الفكرية هي التي تعتمد على
ما ينتجه العقل و الفكر من مقولات و احكام اساسية شاملة للنوع البشري ككل،
مثل قبح الظلم و حُسن العدل، قبح الفاحشة و حسن العفة، و نحو ذلك، و ابرز مثال
لها الدولة التي تخيلتها المدرسة الرواقية، و قد اتضح ان هذه الدولة قاصرة عن
تطبيق هذه المقولات و الأحكام بسبب غلبة المحسوسات على المعقولات النظرية
في الشخصية الانسانية، و عجز الدولة الرواقية بما هي دولة فكرية عن معالجة
هذه‏الحالة.

و هنا يأتي دور الدين ليحقق التعادل المطلوب في الشخصية الانسانية لصالح
المعقولات بحيث تكون هي المتحكمة فيها بنحو مستوعب للمحسوسات و مهذّب
لها و حائل دون طغيانها، و ذلك عبر دعم و تأكيد هذه المعقولات في النفس من
جهة، بنحو تكون معه اكثر وضوحاً و زخماً و فعالية، و اعطائها صفة الزامية و قدرة
اجرائية من خلال مبدأ الثواب و العقاب الالهي من جهة ثانية، و تحقيق عمق


(1). نظرية الإسلام و هديه في السياسة و القانون / ص‏47، ص 71.


|51|

إضافي لها من خلال ما يحضى به الدين من صفة فطرية من جهة ثالثة، أو بتعبير
آخر ان الدين هو تلك القوة التي تسعى‏ الى تحويل المقولات العقلية من واقع نظري
دستوري قائم في الذهن إلى واقع عملي تطبيقي، فالعقيدة الاسلامية تصب في هذا
الاتجاه لتشكل رافداً من الروافد المكونة لهذه القوة، و نظام العبادات يصب فيه
كرافد آخر لها، و الشريعة الاسلامية في ابعادها الاجتماعية تصب فيه ايضاً لتشكل
الرافد الثالث لها، العقيدة الاسلامية تطرح التوحيد كمحور كوني يملك حقانية و
مصداقية مطلقة في توجيه الانسان، و نظام العبادات يتكفل بإيجاد صلة روحية
عميقة و مؤثرة بين الانسان - بما هو إنسان و نوع لا بما هو فرد كما يدعى
العلمانيون - و بين هذا المحور، و في المرحلة الثالثة تأتي الابعاد الاجتماعية من
الشريعة الاسلامية لتنظم الروابط الاجتماعية بين الانسان و اخيه الانسان طبقاً لهذه
الصلة التي تجمعهما مع اللّه سبحانه و تعالى‏، و هكذا يبدأ الدين عقيدة توحيدية
مركزة و ينتهي كمشروع اجتماعي و سياسي توحيدي متكامل مبني على اساس
ايجاد جذبة سماوية في الانسان من شأنها تمكينه من السيطرة على الأرض و
التحكم بما تثيره فيه من إغراءات و غرائز و نزوات.

و هذه هي الوظيفة الاساسية للدين في الحياة الانسانية، و معناه الانساني العميق
المتعالي على متغيرات الزمان و المكان مهما امتدا، العقيدة هي اسلام الفكر و العقل
بنحو ينتهي إلى ازديادهما اتقاداً و اشعاعاً و اثراً، و العبادة هي اسلام الشخصية، و
النظم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية هي اسلام المجتمع و الحياة، و مجموع
هذه المحاور تمثل الدين بما هو رؤية توحيدية متكاملة.

و حينما تتكفل العقيدة بهذا الدور الاساسي فمن الجفاء للواقع ان نقول إذن: بأن
الدولة الاسلامية دولة فكرية، الدولة الفكرية ليست قابلة للظهور و التحقق، لان
الفكر و العقل و ما ينتج عنهما من مقولات و احكام اساسية لا يحضيان بقدرة
اجرائية بحيث تكون هناك دولة قائمة على اساس تلك المقولات كما رأينا في مثال


|52|

المدرسة الرواقية، انما تلك المقولات تدخل الساحة و عالم التطبيق بفضل قوة
العقيدة و دعمها و زخمها و فعّاليتها، و بالتالي فالدولة القائمة على اساسها انما هي
دولة عقائدية، و من المؤكد ان ابا الاعلى المودودي لا يقصد حذف الصفة العقائدية
عند ما وصف الدولة الاسلامية بأنها فكرية، و انما اراد ان ينظر إلى الزاوية الفكرية
المحضة لغرض المقابلة بين الدولة الاسلامية و الدولة القومية، و هو يعتقد ان:
«الدولة الفكرية القائمة على مبادي‏ء و غايات بحيث من قبلها و اعرب عن
استمساكه بها اصبح مشاركاً في تسيير دفعتها من غير ان ينظر الى جنسيته او
سلالته، فمما لم يخطر على قلب بشر و ما اتسعت صدور العالم الضيقة لمثله قط»[1].

و النتيجة التي نخلص اليها من كل ما مضى من البحث ان مفهوم الدولة العالمية
في الاسلام يتمثل ببداية عقائدية اخلاقية و بنهاية جغرافية، و البداية الاخلاقية هي
الاساس لأنها تمثل النواة، اما النهاية الجغرافية فلا تحضى بأصالة و انما تمثل
الامتداد الذي قد يقف عند حدود الجزيرة العربية، و قد يتجاوزها إلى الاندلس، و
قد ينكفي‏ء طبقاً لمعطيات السياسة و المعادلة الدولية الحاكمة إلى المدينة النبوية،
فليست الدولة العالمية في مفهوم الاسلام تلك التي تخضع الآخرين لسلطانها، و انما
الدولة العالمية هي تلك الدولة التي تركز على المعنى‏ التوحيدي و العقائدي للحياة
وترى وظيفتها وظيفة اخلاقية تتمثل في اقامة القسط و العدل و المساواة و الحق
على اساس التوحيد، فهي تكتسي حلّة عالمية و تحضى بجوهر عالمي عندما تبتني
على ذلك المعنى التوحيدي و هذه الوظيفة الاخلاقية، المعنى‏ التوحيدي يقودها إلى
رؤية عالمية طبيعية، والوظيفة الاخلاقية تسلك بها اتجاها عالمياً تلقائياً، اذ لا معنى
لتوحيد لا يأخذ صفة «رب العالمين». صفة الربوبية الشاملة لكل الناس من كل
الجنسيات و الاقطار، بل لكل العوالم البشرية و غير البشرية، حتى تندمج البشرية
في الفضاء اللامتناهي و تدرك حينئذ من علياء هذه النظرة كم الفكرة القومية


(1). نظرية الاسلام و هديه / ص 72.


|53|

المتعصبة ضيقة؟.

والوظيفة الاخلاقية تقول لنا: ان الحق هو الحق سواء كان في اسيا ام اوروبا ام
افريقيا، و الباطل هو الباطل سواء كان هنا ام هناك، و لا معنى لإقامة الحق في
ارض دون اخرى‏، و لا معنى لمطاردة الباطل في أرض دون أُخرى، التدرج امر
معقول و العذر أمر مقبول، فالعاجز عن اداء الوظيفة لا يقال له: انهض بها، و هذا لا
كلام فيه، انما الكلام في الاصل النظري للمسألة، فاذا كان الدين حق، كما هو
معتقدنا، فهو حق بالنسبة لجميع البشر و ليس حقاً لمن اطلع عليه و آمن به فقط، و
حينئذ فوظيفة الدولة الدينية[1] تقتضي منها السعي لإقرار هذا الحق في سائر الأرض
عبر الدعوة الاسلامية بالحكمة و الموعظة الحسنة، و ان تحطم الحواجز التي تحول
دون وصول شعاع الاسلام إلى سائر الاقطار و المجتمعات حسب قدرتها السياسية
و العسكرية المتاحة لها.

و من هنا فإننا و من ناحية اسلامية و واقعية معاً نشجب المفهوم الشائع لعنوان
«الدولة العالمية» في اغلب المؤلفات السياسية حتى بعض الاسلامية منها الذي
يعتبر الدولة العالمية هي الدولة التي تبسط سلطانها على اوطان و قوميات مختلفة
بغض النظر عن المحتوى الا يديولوجي لها، و سواءاً كانت مكتفية برقعة معينة من
الارض أو طامحة إلى السيادة على المعمورة كلها، و حينئذ يكون النموذج الواضح
لها هو النظم الامبراطورية، و لذا نجد كاتباً كأحمد حسين يتحدث في سياق دعوته
إلى الحكومة العالمية الواحدة عن النظم الامبراطورية في التاريخ على أنها
حكومات عالمية كانت هي السائدة في التاريخ الانساني و هي التي عرفها التاريخ
اكثر من غيرها[2]، و من وجهة نظره فإن قيام الدولة العالمية من جديد«لن يحتاج إلى


(1). نقصد بالدولة الدينية حسب المفهوم الاسلامي لا المفهوم الغربي الذي يعتبر الدولة الدينية تلك التي
يقودها رجال الدين ،و تخضع لسلطة الكهنوت.

(2). الامة الانسانية / ص 388.


|54|

اجراءات ثورية أو تطورات حادة و عنيفة، فما على قادة الدول إلّا أن يتخذوا من
ميثاق هيئة الامم الحالي نقطة الاساس و المنطلق، و ادخال بعض التعديلات على
ميثاقها لسد الثغرات التي كشفت عنها التجربة و التطبيق»[1].

فالمسألة دستورية ادارية و ليست ايديولوجية عقائدية!!

بل أن هذا المعنى ينطبق على ما هو اسوأ من ذلك، ففي العديد من المؤلفات
يجري اطلاق تسمية «الدولة العالمية» على الحكومة اليهودية التي يحلم اليهود
بإقامتها على العالم.

و في ثلاثينات القرن الميلادي الحالي روّج الغرب لفكرة الدولة العالمية الواحدة
و ظهر لها انصار في بعض بلدان العالم الاسلامي و لكن الموقف العام كان معارضاً
لها لما تحمله من طابع استعماري. و لذا نجد كاتباً كأنور الجندي يعدها في ضمن
الدعوات الهدامة. فقد كتب يقول:«لقد علا صوت الدعوة العالمية في مصر و العالم
الاسلامي في الثلاثينات و حمل لواء الدعوة اليها امثال سلامة موسى و غيره و لم
تكن قد تكشفت بعد تلك الغايات البعيدة»[2] و «قد استمدت هذه الدعوة وجودها
من منطق مغلوط و من منطق استعماري في الاساس هو ما اطلق عليه اسم رسالة
الرجل الأبيض إلى العالم الملوّن، و الهدف الكامن من وراء هذه الدعوة هو سوق
الناس جميعاً إلى الولاء و العبودية للسيادة الغربية الحاضرة و تذويب الفكر
الاسلامي في اتون العالمية أو إحتواء مقدراته و دمجها في مفاهيم وقيم تختلف في
جوهرها عن قيم الاسلام»[3].

و نقل عن هزيك رالف انه يقول في كتاب له بعنوان «الانسانية و الوطنية»: «أن
النزعة الانسانية يجب ان لا يعتنقها إلّا الامم القوية، اما الامم الضعيفة فإن لم


(1). المصدر نفسه / ص 432.

(2). الاسلام و الدعوات الهدامة / ص 159.

(3). المصدر نفسه / ص 158.


|55|>

تستمسك بمقوما تها الخاصة سحقتها الامم القوية» [1]

و ندد المفكر الاسلامي الشيخ محمد الغزالي بهذه الدعوة، فقد كتب يقول:«اما
مبدأ العالمية فهو و إن كان مبدأ الانسانية و السلام و الخير العام إلّا أن امم الغرب و
حكومات الاستعمار جعلته شبكة تصطاد بها ضعاف العقول و تكسر به حدّة
المقاومة عند الشعوب المظلومة حتى تكون لقمة سائغة لها»[2].

و ندد بها أيضاً الاستاذ عباس محمود العقاد و ذكر عنها كلاماً مشابهاً لما سبق،[3]
و من يقرأ كتاب «احجار على رقعة الشطرنج» للأميرال و ليام غاي كار يجده
حاشداً بتأكيدات متوالية على ان فكرة العالمية قد نشأت من مخططات التلمود و
الصهيونية.

و هنا نقاط ثلاثة لابد من بيانها و هي:

1. ان المفهوم الذي يطرحه هؤلاء للعالمية هو مفهوم سياسي محض لا تلامسه
أي جنبة اخلاقية، و انه قد اساء بسبب ذلك إلى اصل الفكرة العالمية و جعلها
محمّلة بتركة ثقيلة و سمعة مشوّهة بحيث يصعب على من يريد الدعوة اليها مجدداً
ان يجد من يصدّق بنزاهته، و هذه صعوبة جديدة تضاف إلى الصعوبات الاصلية
التي تواجه فكرة الدولة الاسلامية العالمية التي تعد من اصول الفكر السياسي
الاسلامي و ضروراته البارزة.

2. ان موقف المعارضين للعالمية لم يكن دقيقاً، و انه وقع ضحية الخلط بين
أصل الفكرة و التوظيف الاستعماري الغربي لها. فإن العديد من اقطاب الفكر الغربي
دعوا إلى العالمية و نبذ القومية تحت ضغط الواقع المرير الذي عاشه الغرب خاصة
و العالم عامة خلال الحربين العالميتين الاولى و الثانية. و الذي تمّ تفسيره على انه


(1). المصدر نفسه / ص 158.

(2). حقيقة القومية العربية / ص 200.

(3). ساعات بين الكتب / ص 298.


|56|

من افرازات القومية، و هناك عشرات الشواهد و الارقام التي يمكن ايرادها في هذا
المجال، و لكن ضيق المجال لا يسمح لنا إلاّ بذكر شاهد و احد هو ان الفيلسوف
الانجليزي المعروف برتراندرسل كان من الدعاة إلى العالمية و نبذ القومية و انه قد
تعرض إلى السجن اثناء الحرب العالمية الثانية بسبب دعونه إلى السلم و التسامح
العالمي، و انه كان يعتقد بدور الجامعات و مؤسسات التعليم الاخرى‏ في تحقيق
المجتمع العالمي المطلوب، و كان يطمح إلى تأسيس جامعة تفتح ابوابها لكل
الجنسيات و القوميات و لا ترفض إلّا الرافضين للمعاونة العالمية[1].

و في كتابه «التربية و النظام الاجتماعي» نقرأ قوله: «ان القومية هي القوة
الرئيسية التي تسوق حضارتنا إلى دمارها» [2] و «انه مهما كانت الحاجة الاكثر
حيوية للمستقبل فسوف تكون تنمية الافكار لامعة للمواطنة العالمية»[3].

و لكن العامل السياسي المتمثل بالنزعة الاستعمارية المتحكمة في الذهنية
السياسية الغربية هو المسؤول عن تحويل هذه الدعوة إلى دعوة هدّامة: و إلّا فإن
اصل العالمية كمبدأ و كفكرة من افكار القرن العشرين ليست سلبية و انما هي مظهر
اخلاقي انفلت من قبضة المادية المتحكمة في هذا القرن ليعبر عن اعماق انسانية
تحاول التعبير عن ضمير مكبوت.

3. و هذا لا يعني ان تلك الفكرة العالمية كانت جديرة بالنجاح. فقد كان من
الطبيعي ان تقع في الفخ الاستعماري و تصبح واحدة من ادواته. و لم تكن قادرة و
هي في الصورة التي ظهرت فيها و الخلفية الفكرية التي انطلقت منها على تجاوز
ذلك المصير. ذلك ان العالمية في اساسها مفهوم اخلاقي متقوّم بحب الانسانية و
شعور عميق بأصالة الوحدة النوعية للبشر و غلبتها على الفوارق المحلية من لون و


(1). ردود و حدود / ص 140.

(2). التربية و النظام الاجتماعي / ص 138.

(3). المصدر نفسه / ص 27.


|57|

لغة و وطن و قومية، و هو شعور موجود لدى كل انسان. و لكنه لا يصبح حقيقة
مؤثرة في الفكر و السلوك ما لم يستند إلى عقيدة اخلاقية متكاملة، و هذا هو العنصر
الغائب في الغرب و الذي لا يسمح بظهور فكرة انسانية حقيقية، و غاية ما تظهر فيه
شعارات قد تكون صادقة لكنها سرعان ما تصبح مطية العدوان و الصراع.

و لذا نعتقد ان العالمية الاسلامية هي العالمية الحقيقية و الوحيدة في تأريخ
الانسان، و هي العالمية التي تخدم الجنس البشري و ترقّيه و ليس فيها خطر على
أحد، فليست المسألة ادارية دستورية حتى يمكن حلها بهيئة كهيئة الامم
المتحدة،ولا تعليمية حتى يمكن حلها عبر مؤسسات التعليم، و انما هي مسألة
اخلاقية روحية.

و لذا يعجز مفكر غربي ليبرالي امثال «رسل» عن فهمها، و لذا نجده يقول: «ان
الدعوات الوطنية انما نجحت في الاغلب الاعم لأحساسهم أنهاتجري مع المصالح
الوطنية في مجرى واحد فإذا أريد للنظرة العالمية الجديدة أن تفلح و تؤتي ثمارها
فمن الضروري ان تتمثل للناس موافقة للمصالح الوطنية على ذلك المنوال»[1]. و
هكذا فالطريق إلى العالمية يمر عبر قناة الوطنية، و في هذا تغليب و تعميق واضح
للوطنية و جعلها ذات أولوية على العالمية، و ما هو إلا تفسير الماء بعد الجهد
بالماء، فالنتيجة هي الوطنية لا العالمية. و لا معنى لذلك إلّا ان الوطنية هي قدر
الانسان المرتبط بالأرض، و العالمية هي قدر الانسان المرتبط بالسماء، و من حقنا
أن نسأل‏رسل:

هل بأمكان جامعته العالمية المنشودة ان تنتج يوماً ما مواطناً انجليزياً يؤيد
استقلال الدول النفطية و يرى ذلك افضل من الهيمنة الانجليزيةعليها؟.

ان الدولة العالمية حقيقة اخلاقية و طموح انساني طبيعي، إلّا إنه لا وجود لهذه
الحقيقة و الطموح إلّا في نطاق الاسلام، لأنه العقيدة الوحيدة القادرة على دعم


(1). ردود و حدود / ص 241.


|58|

المحتوى الاخلاقي للإنسان و الارتفاع به إلى المستوى‏ الروحي المطلوب و
السيطرة على الغرائز و تهذيبها و منها الغريزة القومية التي هي في الحقيقة تعبير
اجتماعي و سياسي عن الانانية الفردية و حب الذات.

تعداد نمایش : 3298 <<بازگشت
آموزش

سامانه آموزش

پژوهش

سامانه پژوهش

کتابخانه

کتابخانه دیجیتال

نشریه

فصلنامه حکومت اسلامی