اولاً. العطاء الانساني العام للدولة العالمية تاریخ ثبت : 2012/02/22
طبقه بندي : ,99,
عنوان : اولاً. العطاء الانساني العام للدولة العالمية
آدرس فایل PDF : <#f:86/>
مولف : <#f:89/>
نوبت چاپ : <#f:90/>
متن :

|129|

اولاً. العطاء الانساني العام للدولة العالمية




مسألة المثل العليا للانسان

الدولة بمعنى من المعاني هي المؤسسة التي تتصدى لتنظيم علاقة المحكوم
بالحاكم، و علاقة المواطن بأخيه المواطن الآخر، و علاقة الجميع بالبلد الذي
يعيشون فيه. و المفهوم الحديث للدولة يركز على العلاقة الثالثة كأساس و اطار
للعلاقتين السابقتين. فالبلد المكوّن من وطن و أمة يُعد في هذا المفهوم اساس


|130|

العلاقة بين المواطن و المواطن الاخر من جهة، و بين المواطنين و الحكّام من جهة
اخرى، بما يعني ان المفهوم الحديث للدولة مفهوم قومي يرتكز على اساس معروف
هو الولاء للوطن و الامة، و هنا تأتي الدولة العالمية لتناقش في مضمون و مصداقية
هذا الولاء. و تطرح ولاءاً آخر يتناسب و شأن الانسان.

فإن الحياة المدنية - التي ليس بوسع الانسان الفرار منها - تفرض عليه ابراز
ولاءه لمحور معين لا يعدو ان يكون واحداً من ثلاثة، فاما ان يعبر عن ولاءه لنفسه
و للمجموعة البشرية التي يعيش ضمنها المعبر عنها بالأمة، و اما ان يعبر عن ولاءه
لما هو ادنى من رتبته في سلم الوجود كالارض المعبر عنها بالوطن، و اما ان يعبر
عن ولاءه لما هو اعلى منه شأناً و هو اللّه سبحانه و تعالى، الولاء الاول ينتج دولة
قومية، و الثاني ينتج دولة وطنية، و الثالث ينتج دولة عالمية، و رغم التمايز النظري
بين الولائين الأول و الثاني الا انهما من ناحية عملية أُعتبرا ولاءاً واحداًمندمجامع
بعضه، فإن ولاء الانسان لجماعته القومية و ان كان من الناحية النوعية ارقى من
ولاءه لوطنه، الا ان الوجه المادي المشترك بينهما اسقط هذا الفارق النوعي بينهما،
فالوطني يمنح ولاءه للوطن بما هي حضن مشترك للجماعة التي ينتمي اليها، و
القومي يمنح ولاءه للقومية بما هي مجموعة بشرية يشترك معها في الدم و اللغة و
الارض، و كلاهما ينظران للإنسان من ناحيته المادية، فالقومي لا يمنح ولاءه
للإنسان و انما يمنح ولاءه الحقيقي للعناصر التي تمثل منشا القومية، و هي عناصر
مادية بحكم المناخ المادي الذي ترعرعت فيه الفكرة القومية، و بالتالي فالمثل
القومي الاعلى كالمثل الوطني، كلاهما من رتبة ادنى من الرتبة الانسانية، فالمثل
الاعلى اما ان يكون اعلى من الانسان و اما ان يكون ادنى، و من الخداع الحديث
عن مثل انساني، لأن مقهورية الانسان امام الكون تجعله متأرجحاً بين الولاء
للأرض أو للسماء.

و الحديث عن القيمة الموضوعية للدولة العالمية هو في الحقيقة حديث عن


|131|

القيمة الموضوعية لاتخاذ التوحيد مثلاً اعلى في الحياة بدلاً عن الارض. و قد
أفاض القرآن الكريم في هذا الجانب. فتحدث عن نوعين من المثل العليا في حياة
الانسان. مثل عليا مشتقة من التوحيد، فهي مثل عليا حقيقية، و مثل عليا ارضية
فهي مثل زائفة مصطنعة تلعب دور المثل العليا بسبب انحراف الانسان عن المثل
الحقيقية، و قد تلألأت يراعة المفكر الاسلامي الكبير السيد محمد باقر الصدر في
تناولها لهذا الجانب في محاضراته القرآنية، و من المناسب ان نقتطف شيئاً من
حديقة افكاره فيه، فهو يقول:

«بقدر ما يكون المثل الاعلى للجماعة البشرية صالحاً و عالياً و ممتداً تكون
الغايات صالحة و ممتدة، و بقدر ما يكون هذا المثل الاعلى محدوداً او منخفضاً
تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة و منخفضة أيضاً»[1] «و كل جماعة اختارت
مثلها الاعلى فقد اختارت في الحقيقة سبيلها و طريقها...»[2] «حتى ورد في قوله
سبحانه و تعالى: ارأيت من اتخذ الهه هواه، عبّر حتى عن الهوى بأنه اله حينما
يتصاعد هذا الهوى تصاعداً مصطنعاً فيصبح هو المثل الاعلى و هو الغاية القصوى
لهذا الفرد او لذاك... و هذه المثل العليا التي تتبناها الجماعات البشرية على
ثلاثةاقسام:

القسم الاول: المثل الاعلى الذي يستمد تصوره في الواقع نفسه...و حينما يكون
المثل الاعلى منتزعاً من واقع الجماعة بحدودها و قيودها و شؤونها يصبح حالة
تكرارية يصبح بتعبير آخر محاولة لتجميد هذا الواقع و حمله الى المستقبل...و لهذا
سوف يكون المستقبل تكراراً للواقع و للماضي»[3] و حيث ان «المثل الاعلى دائماً
يحتل مركز الاله بحسب التعبير القرآني»[4] فظهرت بسبب ذلك «الاديان التي يفرزها


(1). المدرسة القرآنية/145.

(2). المصدر نفسه/146.

(3). المصدر نفسه /148.

(4). المصدر نفسه /157.


|132|

الانسان من خلال صنع هذه المثل و من خلال عملقة هذه المثل و تطويرها من
تصورات الى مطلقات...هذه الاديان هي اديان التجزئة في مقابل دين التوحيد
سوف نتكلم عنه حينما نتحدث عن مثله الاعلى القادر على استيعاب البشرية...»[1].

«النوع الثاني: يعبر عن كل مثل اعلى للأمة يكون مشتقاً من طموح الامة من
تطلعها الى المستقبل...ليس هذا المثل تعبيراً تكرارياً عن الواقع بل هو تطلع الى
المستقبل»[2] و مشكلة هذا النوع «حينما يصنع مثله الأعلى و ينتزع هذا المثل
الأعلى من تصور ذهني محدود للمستقبل. لكي يحول هذا التصور الذهني المحدود
الى مطلق»[3] «و حينئذ سوف يتحول هذا المثل نفسه الى قيد للمسيرة، الى عائق عن
التطور، الى مجمد لحركة الانسان لأنه اصبح مثلاً، اصبح الهاً، اصبح ديناً اصبح واقعاً
قائماً، و حينئذ سوف يكون بنفسه عقبة امام استمرار زحف الانسان نحو كماله
الحقيقي»[4] «و تتجلى هذه المشكلة في نزوع هذا المثل المستقبلي المحدود نحو
التعميم الخاطي‏ء، افقياً تارة و زميناً أخرى، مثال التعميم الإنسان الاوروبي الحديث
في بدايات عصر النهضة وضع مثلاً أعلى لأنه رأى إن الإنسان الغربي كان محطماً و
مقيداً... و هذا شي‏ء صحيح إلّا أن الشي‏ء الخاطى في ذلك التعميم الافقي، فإن هذه
الحرية بمعنى كسر القيود عن هذه الانسان هذا قيمة من القيم، هذا اطار للقيم، و
لكن هذا وحده لا يصنع الانسان، ليس هذا هو المثل الاعلى» «و اذا جرد هذا
الاطار عن محتواه سوف يؤدي الى الويل و الدمار الى الويل الذي تواجهه الحضارة
الغربية اليوم...»، و مثال التعميم الزمني «حينما اجتمع في التاريخ مجموعة من
الاسر فشكلوا القبيلة، حينما اجتمعت مجموعة من القبائل فشكلت عشيرة، حينما
اجتمت مجموعة من العشائر فشكلت امة، هذه الخطوات صحيحة في تقدم البشرية


(1). المصدر نفسه /158.

(2). المصدر نفسه /164.

(3). المصدر نفسه /165.

(4). المصدر نفسه /166.


|133|

و توحيد البشرية، ولكن كل خطوة من هذه لا يجب ان تتحول الى مثل اعلى. لا
يجوز ان تتحول الى مطلق، لا يجوزان تكون العشيرة هي المطلق الذي يحارب من
اجله الحقيقي، يبقى هو الله سبحانه و تعالى...»[1].

«النوع الثالث من المثل العليا هو المثل الاعلى الحقيقي و هو الله سبحانه و
تعالى، في هذا المثل، التناقض الذي و اجهناه سوف يحل بأروع صورة، كنا نجد
تناقضاً و حاصل هذا التناقض هو ان الوجود الذهني للإنسان محدود، و المثل يجب
ان يكون غير محدود...هذا المثل الاعلى ليس من نتاج الانسان، ليس افرازاً ذهنياً
للانسان، بل هو مثل اعلى عيني له واقع عيني»[2] «و هذا المثل الاعلى الحقيقي
حينما تتبناه المسيرة الانسانية...سوف يحدث تغيير كمي و كيفي على هذه
المسيرة...اما التغيير الكمي على هذه الحركة فهو بإعتبار ما أشرنا اليه من ان الطريق
حينما يكون طريقاً الى المثل الاعلى الحق يكون طريقاً غير متناهٍ، اي ان مجال
التطور و الابداع و النمو قائم ابداً و دائماً...»[3] «و اما التغيير الكيفي الذي يحدثه
المثل الاعلى على هذه المسيرة فهذا التغيير الكيفي هو اعطاء الحل الموضوعي
الوحيد للجدل الانساني، للتناقض الانساني، اعطاء الشعور بالمسؤولية الموضوعية
لدى الانسان»[4] «المثل الاعلى يوحد الجامعة البشرية و يلغي كل الفوارق و الحدود
باعتبار شمولية هذا ا لمثل الاعلى، باعتبار شموليته فهو يستوعب كل الحدود و كل
الفوارق و يهضم كل الاختلافات...لا يوجد ما يميّز بعضها عن بعض لا من دم و لا
من جنس و لا من قومية و لا من حدود جغرافية او طبقية، المثل الاعلى بشموليته
يوحد البشرية ولكن المثل العليا المنخفضة تجزي‏ء البشرية، و تشتت البشرية
انظروا الى المثل الاعلى كيف يقول: (ان هذه امتكم امة واحدة و انا ربكم


(1). المصدر نفسه /169.

(2). المصدر نفسه /176.

(3). المصدر نفسه /184.

(4). المصدر نفسه /185.


|134|

فاعبدون.) ... استمعوا الى المثل المنخفض. الى مجتمع الظلم و آلهة مجتمع الظلم
كيف يقولون، او كيف يتحدث عنهم القرآن الكريم: (ان فرعون علا في الارض و
جعل اهلها شيعاً)
»[1].

اذن فالفرق بين الدولة العالمية و الدولة القومية هو ذاته الفرق بين مثل اعلى
حقيقي يمنح المسيرة البشرية معنى تكاملها و رقيها، و بين مثل زائف يصطنعه
الانسان لنفسه و ينسجه في ضوء ملابسات الواقع الذي يحياه بما فيه من ضعف و
قوّة، و الذي عبر الانسان القديم عنه تعبيراً ساذجاً من خلال اصطناع الاصنام و
عبادتها و عبر الإنسان الحديث عنه من خلال اصطناع القومية و الوطنية كمثل اعلى
في الحياة المدنية، و قد تنبه الفيلسوف الانجليزي المعروف براتراند راسل الى هذه
النتيجة فكتب يقول: ان«الولاء للوطن غير كافٍ وحده ان يكون مثلاً اعلى لانه
باعتباره مثلاً اعلى ينطوي على انعدام قوة الابداع».[2].

ان القومية و الوطنية حقائق طبيعية تعبر عن انتماء الانسان و تبين موضع قدميه
على الارض، و لا تعبّر عن قيمة هدفية تكاملية بالنسبة للإنسان الذي عليه ان يميز
بين محور الولاء و محور الانتماء، فهو ينتمي لأسرة و عشيرة و محلة و مدينة و بلد
و قومية، و هذه الانتماءات لا تستحق ان تكون مُثلاً عليا و لم تخلق كمحاور
للولاء. الّا عند من لا يميّز بين الموضع الداني لقدميه و الموضع الرفيع لرأسه،
فيتجاهل رفعة رأسه و يمنح ولاءه للتربة التي تقف عليها قدماه.

الدولة العالمية تحول ولاء الانسان من اسفل الى اعلى، من المحدود الى المطلق،
من الداني الى الرفيع، بينما تقوم الدولة القومية بعكس ذلك حينما تحوّل ولاء
الانسان من اعلى الى اسفل حيث الدم و التراب و سائر القيم المادية المنخفضة التي
خلقت لتكون بخدمة الانسان، لا ان يكون الانسان تابعاً لها و عبداً ذليلاً امامها.


(1). المصدر نفسه /ص‏228 - 229.

(2). التربية و النظام الاجتماعي/ ص‏15.


|135|

هذا هو العطاء الاساسي الذي تقدمه الدولة العالمية للإنسان، و منه تتشعب
سائرالعطاءات.


ثورة الافق

ان الارتباط بالمطلق اللامتناهي يفتح امام الانسان نافذة يطلّ من خلالها العالم
المادي المحدود على عالم المطلق اللامتناهي، فترتبط الساقية الصغيرة بالمحيط
الكبير، و لولا هذا الارتباط لطغت هذه الساقية و تصورت نفسها هي المحيط الكبير
غروراً و انتفاخاً، و لتضررت كثيراً من التقوقع في هذه المحدودية التي هي فيها،
لكنها بالارتباط بالمحيط الكبير سوف تعرف حجمها و تتوسع افاقها و تسعى نحو
الكمال الذي تجده في المحيط الكبير.

و الدولة العالمية تؤمّن هذه الرابطة للإنسان لتنقذه من القمقم المحلّي الذي
يفرض عليه الولاء لدائرة صغيرة محدودة، و تعوّضه عن ذلك بولاء لا يعرف
الحدود، بوصف ان الارض وطن مشترك لجميع أفراد البشرية، فالانتماء لهذا الوطن
المشترك، و الولاء و التبعية للخالق العظيم، و ليس لتراب يوطأ بالأقدام، و الفرق
بين الانتمائين و الولائين ينعكس على البناء الذهني و الروحي و الثقافي للإنسان،
فالولاء للقيم الأرضية المادية بكل ما تمثله من انحدار و هبوط، لا يختلف من
ناحية جوهرية عن الولاء الجاهلي للأصنام، بينما الولاء للّه سبحانه يعني الولاء
للقيم المطلقة السامية و الكمال المطلق، كما أن تحديد الانتماء ببقعة محدودة
يحولها إلى قيد ذهني و اخلاقي يحول دون انطلاق الذهن في الآفاق الواسعة، و
دون انطلاق القيم الإنسانية المطلقة في شخصية الإنسان، و التاريخ زاخر
بالادعاءات المتكررة الصادرة من جماعات قبلية أو قوميةترى نفسها فوق سائر
الناس، أو استثناءاً خاصاً من الخليقة، كالرومان و الفرس و عرب الجاهلية و اليهود
و مجموعات اُخرى في سائر بقاع الأرض، و ليست النازية إلّا طبعة حديثة منها، و
الحقيقة أن هذه الادعاءات التي يجمع الناس على استنكارها تشكل الضمير


|136|

الداخلي لكل حركة قومية، و الفرق بين النازية و سائر الحركات القومية أن النازية
كانت صريحة صادقة كشفت عن أفكارها و مبادئها بوضوح بينما عمدت سائر
الحركات القومية إلى التخفيف من لهجتها و التلفع بعباءات انسانية شفافة، بسبب إن
النازية حينما هزمت في الحرب العالمية الثانية أصبحت مثالاً بشعاً يثير التقزز و
القشعريرة، ولو قدر لها أن تنتصر لكانت الامثولة الرسمية لكل القوميات في العالم.
و لو اننا رصدنا سيرة و سلوك القوميات الغالبة القوية في تعاملها مع القوميات
الضعيفة الصغيرة لوجدناه سلوكاً لا يختلف عن النازية إلّا في الإسم، فالنازية هي
الحقيقة المتحركة في باطن كل حركة قومية، سوى أن هذه الحقيقة تظهر بوضوح
في واقع القومية الغالبة القوية و تبقى دفينة الباطن في القوميات الضعيفة غير
القادرةعلى الاعتداء، و التي‏ترى أن التلفع بشعار الإنسانية هو السلوك المناسب
لحالها و مصلحتها.

بل أن سقوط النازية كان درساً بليغاً فهمته القوميات الكبيرة التي ظهرت على
مسرح التاريخ بعد القومية الالمانية. حيث ادركت هذه القوميات أن القومية
الاعتدائية السافرة مصيرها إلى السقوط، و أن العمل على مسرح الحياة الدولية
يقتضي اخفاء اللهجة القومية وراء شعار عاطفي خادع كشعار الإنسانية و حقوق
الإنسان و الدفاع عن الحريات في العالم.

و هكذا فالإنسانية شعار مشترك ترفعه القومية الضعيفة لأنها عاجزة عن
الإعتداء، و ترفعه القومية القوية لكي تمرّر من خلاله اعتداءاتها على الآخرين.


الخيار الاخلاقي

ان الدولة العالمية المنبعثة عن مثل اعلى حقيقي هي الخيار الاخلاقي الذي ينقذ
الانسان من مساوى‏ء الدولة القومية.

ذلك ان الشعور القومي - و كذا الوطني - شعور انفعالي منشؤه العاطفة غير
الموجهة، لذا يظهر بشدة في الازمات و الحروب القومية و الوطنية و يضعف في


|137|

اوقات السلم. و التركيز على هذا الجانب في الانسان يقود الى تغليب العاطفة على
العقل. يقول تقي الدين النبهاني:

«ينشأ بين الناس كلما انحط الفكر رابطة الوطن، و ذلك بحكم عيشهم في ارض
واحدة و التصاقهم بها فتأخذهم غريزة البقاء بالدفاع عن النفس... و هي اقل
الروابط قوة و اكثرها انخفاضاً و هي موجودة في الحيوان و الطير كماهي موجودة
في الإنسان، و تأخذ دائما المظهر العاطفي، و هي تلزم حالة اعتداء اجنبي على
الوطن بمهاجمته او الاستيلاء عليه. و لا شأن لها في حالة سلامة الوطن من
الاعتداء، و اذا رد الاجنبي عن الوطن او اخرج منه انتهى عملها و لذلك كانت رابطة
منخفظة. و حين يكون الفكر ضيقاً تنشأ بين الناس رابطة قومية و هي الرابطة
العائلية ولكن بشكل اوسع، و ذلك ان الانسان تتأصل فيه غريزة البقاء فيوجد عنده
حب السيادة و هي في الانسان المنخفض فكرياً...»[1] و يعتبر الرابطة الوطنية فاسدة
لثلاثة اسباب هي «اولاً لأنها رابطة منخفضة لا تنفع لأن تربط الانسان بالانسان
حين يسير في طريق النهوض و ثانياً لأنها رابطة عاطفية تنشأ عن غريزة البقاء
بالدفاع عن النفس و الرابطة العاطفية عرضة للتغيير و التبديل فلا تصلح للربط»[2]، و
يقول هربرت لوثي «1744 - 1804» «القومية مذهب يعتمد على حفنة من
الجزميات التي تفتقد المسوّغ العلمي و العقلي و لا يعتقد بأصالته سوى اتباعه».[3]

و يقول لويس .ل. شنايدر: «و في خلال القرن القرن التاسع عشر بدأ الشك في
العقل يساور النفوس بصورة تدريجية، فظهرت الرومانتيكية اولاً ضد الاتجاه العقلي
في التفكير فاند مجت مع القومية و بدلاً من الالتجاء الى العقل و الفكر اتجه
الرومانتيكيون القوميون الى القلب و الروح و الدم ينشرون منها الوحي و الالهام...و


(1). نظام الاسلام/ ص‏20.

(2). المصدر نفسه / ص‏21.

(3). الاسلام و القومية / ص‏65.


|138|

قد اعتقدوا ان العقل كان ضعيفاً امام هذه القوى البايلوجية الاخرى كالغرائز...و قد
دفع هذا التفكير الى استمالة جماعات كثيرة من الناس تحولوا فيما بعد الى قادة و
سحرة و غوغائيين يفكرون في الدم...ان القرن العشرين خير شاهد على هذا التحلل
عن العقل و الالتجاء الى الخرافات و الاساطير و يمكن معرفة هذا التطور بصورة
احسن اذا التجأ الى استخدام اساليب علم النفس لوصف الانحطاط العقلي و
الفكري».[1]

و الواقع ان القومية تمثل احد التحديات التي افرزتها النهضة الاوروبية ضد
العقل، و يتكامل دورها السلبي في هذا الاتجاه مع المحاولات العلمية و الفلسفية
المختلفة الرامية لربط الانسان بكيانه المادي و مصادرة وجوده المعنوي بالتنكر
لبعضه كالروح و تفسير البعض الاخر من هذا الوجود المعنوي على اساسٍ مادي
كما فعلوا مع العقل.

و نتيجة لمحدودية و نسبية المثل القومي و انبعاثه عن عالم الغريزة جاءت
القومية حركة مناهضة للأخلاق، فإن الاخلاق لا تتولد الا في اطار المثل المطلقة.
بينما القومية مزيج من طباع انسانية رديئة كالانانية و العصبية و الكبر و الغرور. و
اذا ما انحصرت مُثل الانسان في حدود بلاده كما يفترض المفهوم الحديث للقومية،
فإن ذلك سيؤدي الى طرح الاخلاق طرحاً عنصرياً حيث تكون الفضيلة هي ما
تقتضيه المصلحة الوطنية و القومية و الرذيلة ما يتعارض معها، و ان كانت تلك
المصلحة و سبل تحقيقها غير مشروعة، يقول فولتير: «ما تمنى احد العظمة لبلاده
الا و تمنى التعاسة للآخرين»[2] و يقول براتراند رسل: «ان الشعور القومي يتسم
بعنصر خفي او واضح من العداء للغير»[3]، و يقول احد المستشرقين الهولنديين ان


(1). العالم في القرن العشرين / ص‏34.

(2). الاسلام و العقل / ص‏210.

(3). الانسان العقائدي/ ص‏183.


|139|

القومية اضحت: «الهاً تضحى على مذبحه جميع مبادي الحق و العدل و الخير».[1]

و قد شرح الاستاذ «مود» الشرف و المجد القومي بقوله: «إن المجد القومي انما
يعني ان يكون الشعب يملك قوة يسلط بها رغبته و هواه على آخرين اذا
مسّت‏الحاجة ... فالشرف كما قال المستر - بلدون - عبارة عن قوة تنال الامة
بهاالمجد و الفخار و تستلفت اليها الانظار و تشغل الافكار، و معلوم ان هذه القوة
التي تنال الامة بها هذه الدرجة من الشرف انما تتوقف على قنابل نارية متفجرة و
مشعلة للنيران و على وفاء الشبان و ولاءهم للوطن، الذين يحبون القاء تلك القنابل
على المدن... فأرى ان الشعب يجب ان يعد همجياً و غير مهذب بالمقدار الذي
يملكه من الشرف...».[2]

و يقول عالم الاجتماع و الترلاكور: «من الخصائص الرئيسية للقومية حب الذات
و التقليل من شأن الآخرين و فقدان روح النقد الذاتي و عدم الشعور بالمسؤولية و
عدم رعاية جانب الانصاف. و لذلك تفقد القومية الرؤية الواقعية بالتدريخ ليسيطر
التصور الخيالي على المجتمع»[3]. و يقول جون هرمان راندال: «كان الفاشيست الا
يطاليون اول من فاخر بصراحة من جديد بالانانية المقدسة للدولة القومية».[4]

إن الأخاء الإنساني فضيلة ليس بإمكان البشرية الحياة بدونها، غير أن الاُخوّة لا
توجد إلّا ظلال الابوّة، فهل وجد أخوان من دون أب؟ و هكذا الاخوّة الإنسانية
العامة لا توجد ما لم تستشعر البشرية ابوّة السماء، و تذعن لهيمنة الخلّاق العظيم
عليها و تعمل على اساس التبعية له. و هذه هي العالمية التي يريدها الإسلام و
يسعى لتحقيقها.

و الفضيلة - كما مر آنفاً - لا تقاس بما تحقق من أهداف دنيوية و منافع مادية، و


(1). نظام الحكم في الاسلام/ ص‏57.

(2). ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين/ ص‏228.

(3). الاسلام و القومية/ ص‏78.

(4). تكوين العقل الحديث/ ج‏2/ ص‏411.


|140|

إنما تقاس بقيمتها الذاتية و ما تحدثه في النفس من تجليات، و ما توجده من آفاق
روحية خيّرة ،و حاجتنا إلى الأخاء الإنساني لا تعني الحاجة إلى السلام العالمي
فحسب، مع ما لهذا الهدف من صفة إنسانية نبيلة، و إنما تعني بالدرجة الاُولى
الحاجة إلى صقل النفس الإنسانية و تهذيبها و إطلاق اشعة النور فيها و تكريس
روحية الخير و الحب و الرحمة و الرأفة فيها.

في عالم كهذا الذي صنعته القومية تأتي الدولة العالمية لتنقذ الانسان مما حلّ فيه
من اجواء غريزية لا تتناسب و شأنه، و تجعله يتسامى على انانيته و غروره، و
تقوده بدلاً عن ذلك الى عالم الاخاء الانساني.


من فكرة الصراع الى فكرة الجماعة

الاسرة تأخذ معناها الحقيقي عندما يكون هناك أبٌ يتوسطها و يرعاها و
يستقطب افرادها و تتمحور حوله فيسودها شعور جماعي و فكرة جماعية، و عندما
تفقد ذلك الاب المستقطب تفقد معنى الاسرة و يتبدد شعورها الجماعي ليحل محلّه
شعور فردي يقود كل فرد قوي من افراد هذه الاسرة للبحث عن موقع افضل من
الاخرين، فيما يحاول الفرد الضعيف ضمان موقعه العادي، فوجود الاب يؤدي الى
نشوء اسرة قائمة على اساس فكرة جماعية و فقدانه يؤدي الى سقوط هذه الاسرة
و تحولها الى افراد تسودهم فكرة معاكسة هي فكرة الصراع، ولو على مستوى
الاحساس الوجداني الداخلي الذي يجعلهم على أهبّة الاستعداد للدخول في اي
نزاع ينشب و لو من اسباب صغيرة.

و ما يصدق على الاسرة يصدق على المجتمع البشري الكبير، فهو يسير بين
خيارين لا ثالث لهما، خيار المجتمع المتمحور حول اب و المشبع بفكرة جماعية، و
خيار المجتمع الفاقد لهذا المحور و المشبع بفكرة صراعية، الاول هو المجتمع
التوحيدي المتمحور حول الله سبحانه و تعالى، و الثاني هو المجتمع المادي الفاقد
لهذا المحور، و الدولة العالمية هي دولة المجتمع الاول، و الدولة القومية هي من


|141|

حيث الاصل دولة المجتمع الثاني، بمعنى ان القومية مظهر طبيعي من مظاهر فكرة
الصراع الراسخة في المجتمع غير التوحيدي، هذه الفكرة تجلت بتمام ابعادها في
الحضارة الغربية التي عبّرت عنها فلسفياً من خلال فكرة الديالكتيك و صراع
الاضداد، و تاريخياً من خلال فكرة صراع الطبقات، و علمياً من خلال فكرة الصراع
من اجل البقاء، و دولياً من خلال الحروب و الاسلحة الفتاكة حتى كتب روجيه
غارودي يقول: «ان هيمنة الغرب منذ خمسة قرون تكللت بإرادة مدمرة للكرة
الارضية» و يضيف: «ان نتائج هذه الهيمنة تمثلت بوفاة 50 ميليون انسان جوعاً،
اي هيروشيما يومية على العالم الثالث».[1]

كما تجلت فكرة الصراع و نوازع الدمار في الحضارة الغربية على الصعيد
الاجتماعي بتفكك الاسرة و شيوع الجريمة و الانتحار و تقنين الشذوذ الجنسي، و
تجلت على الصعيد الانساني من خلال الفكرة العنصرية القائلة بأن الحضارة وليدة
العنصر الراقي، و انهاتقتضي اخضاع العنصر البشري الردي‏ء لحاكمية العنصر
الاوروبي الرفيع، و كان من الطبيعي ان تأخذ هذه الفكرة مداها على الساحة
السياسية فتظهر من خلال فكرة القومية التي مهما قيل عن برائتها عن الطابع
العنصري الا انهامع ذلك يبقى لها جذر يضرب في العنصرية، و قد اكد العديد من
المفكرين المعاصرين الطابع التدميري للقومية.

يقول براتراند رسل: «..و هكذا فعالمنا الحديث يكون الجيد فيه كسلاناً و فقط
السي‏ء هو النشيط يمشي ثملاً باتجاه الدمار...فالى جميع الذين ليسوا سكارى
الخطر الواضح ان القومية هي القوة الرئيسية التي تسوق حضارتنا الى دمارها».[2]

و يقول ارنولد توينبي: «ان مخلفات الحضارة الغربية هما الخمر و القومية...».[3]


(1). الاصوليات المعاصرة / ص‏64.

(2). التربية و النظام الاجتماعي/ ص‏138.

(3). الفكر القومي/ص 23.


|142|

و يقول اقبال اللاهوري في وصف القومية بأنها: «نوع من الوحشية».[1]

و يقول ابو الاعلى المودودي: «قد سلط على الامم الغربية شيطانان قويان
يجرانهاالى ما فيه الهلاك او لهما شيطان قطع النسل و الاخر شيطان القومية».[2]

و يقول تولستوي: «صرحت مراراً ان عاطفة الوطنية في زماننا هذا عاطفة غير
طبيعية بل خارجة عن الصواب و مضرّة و هي علة اكثر امراضنا الاجتماعية...لذا لا
ينبغي ان تعلّم كما هو الحاصل الآن، يجب منعها و استئصال شأفتها بكل الوسائل
الفعلية التي تبدو لأولي النهى».[3]

و يقول البرت أشفيتسر: «و من هذين العنصرين اعني الاحساس بالواقع و
الاحساس التاريخي ينشأ التعصب القومي الذي ترجع اليه الكارثة الخارجية التي
يتم بها انحلال حضارتنا».[4]

و من هنا يُجمع الكتاب و المفكرون على ان القومية تقف وراء حروب القرنين
التاسع عشر و العشرين. ففي القرن التاسع عشر تمثلت القومية بالمعارك و انشاء
المستعمرات ثم اصبحت مصدراً للتوسع و تعارض المصالح للدول المختلفة على
حد تعبير احد المؤرخين الاجتماعيين.[5]

يقول فرانسيس كوكر - مفكر غربي - : «اقتنع الكثير من القوميين في القرن
التاسع عشر اثر المشاعر القومية المتطرفة بأن الشعوب المتطورة و التي تتميز
بتأريخ و تراث عظيمين و تحضى بتفوق عنصري و قومي لا يحق لها حصر قدراتها
و امكانياتها داخل حدودها، اذ ان الواجب القومي و الوطني لا ينحصر بالدفاع عن
سيادة الوطن و حفظ الاستقلال فحسب و انما توجد هناك رسالة عالمية و يتوجب


(1). المصدر نفسه/ ص‏204.

(2). المصدر نفسه /ص‏204.

(3). الآفات الاجتماعية و علاجها/ص‏215.

(4). فلسفة الحضارة/ص‏43.

(5). الاسلام و القومية /ص‏24.


|143|

عليهم بسط نفوذهم السياسي و حضارتهم القومية وفق ما تتطلبه المصلحة على
جميع الدول المتأخرة حتى و ان تم ذلك باستخدام القوة و العنف».[1]

و يقول الدكتور هات احد رواد القومية في القرن التاسع عشر:

«ان الاكتفاء بحفظ سيادة الوطن ليس كل شي‏ء، لأن التخلف عن التنافس
الاقتصادي - السياسي العالمي يعني عدم اداء الواجب الكامل في حراسة العظمة و
الهبة التأريخية للوطن، فعدم الاقدام على التوسع يعني تعريض الغرور القومي
للصدمة و الموت في معركة تنازع البقاء بين الدول، و ان الاقتدار و المخاطرة و
النزعة الحربية هي الكفيلة بالابقاء على غرورنا القومي و حفظه».[2]

و بلغت القومية اوجها في القرن العشرين، و بسببها خاض العالم حربين
عالميتين عدا الحروب الاقليمية المحدودة، و في ذلك يقول لويس ل. شنايدر:
«وقد زادت حدة التنافس بين الدول الوطنية يوماً بعد آخر و بتأثير واقع
المصالح‏الانفعالية المتخلفة من الماضي اخذ الجنس البشري يميل الى تناسي
ان‏جميع الناس في الاساس متشابهون كأفراد، و الواقع ان ضرورات
التكامل‏القومي‏قد جعلت من الضروري ان تغلب الدولة الاخرى قبل ان تعيش
احدى الدول في سلام».[3]

و يقول ايضاً: «ان دماء الملايين الاخرين التى اهدرت و ثروات الشعوب التي
نهبت و الفضائح الانسانية التي ارتكبت كل ذلك قد جعل العالم متحيراً في امره فيما
اذا كان الشعب الالماني قد اصبح فاقداً لشعوره و خصائصه الانسانية».[4]

و هذا ما يؤكد ان العنصرية ملازمة للقومية و لا يمكن التفكيك بينهما. و هذا ما
يؤيده تأريخ الحركة القومية في العالم خصوصاً في المرحلة الحديثة التي شهدت


(1). المصدر نفسه/ص‏22.

(2). المصدر السابق/ص‏23.

(3). العالم في القرن العشرين /ص‏208.

(4). المصدر نفسه/ص‏129.


|144|

ظهور النازية في المانيا و سياسة الفصل و التمييز العنصري في امريكا و جنوب
افريقيا. فضلاً عن ان الاستعمار و هو من ابرز معالم التأريخ الحديث يعتبر ظاهرة
عنصرية افرزتها الحركة القومية في العالم.

ولو ان الحرب العالمية الثانية لم تنته بهزيمة النازية لكانت العنصرية فخراً
يتجاذبه القوميون. ولكن تلك الهزيمة حولت العنصرية الى فضيحة يتبارى الجميع
لدرئها عن انفسهم، فأخذ القوميون من كل قومية يسعون لإثبات ان حركتهم انسانية
و مناوئة للعنصرية. و تركز هذا الاتجاه اكثر في القوميات الناشئة حديثاً. و الحقيقة
ان القومية بما تقوم عليه من تمييز الذات و التأكيد عليها و ما يستتبعه ذلك من
الاقلال من شأن الغير تنتهي بشكل تلقائي الى شعور عنصري استعلائي، غير ان هذا
الشعور يكون في‏طور القوة و الخفاء عند القوميات الناشئة حديثاً و الضعيفة التي
تأخذ بالتركيز على البعد الانساني لغرض مقاومة قوميات اخرى معادية لها في
صورة الدفاع عن الاخلاق و الانسانية. و يخرج هذا الشعور الى‏طور الفعل كلما
شعرت القوميات بإمتلاك وسائل الاعتداء على الغير. من هنا تسلك العديد من
القوميات سلوكاً مزدوجاً، فعند مواجهة القوميات الكبرى الاستعمارية
تتشبث‏بالاخلاق و الانسانية و في علاقتها مع القوميات الصغرى تعتصم بشعور
عنصري استعلائي ضمن صورة غريبة تحكي صورة العلاقات بين وحوش الغاب. و
ذلك من معالم انحطاط الشعور القومي و كونه ينطلق من الحس و الانفعال بدلاً عن
العقل و التفكّر.

و بقدر ما تؤدي الفكرة القومية إلى الحروب و النزاعات، تقود الفكرة العالمية إلى
السلم و الأمن، و لذا يفزع الإنسان بعد كل دورة حرب تشعل القومية فتيلها إلى
الفكرة العالمية طامحاً من خلالها إلى السلم، فبعد الحرب العالمية الاولى ظهرت
عصبة الاُمم، و بعد الحرب العالمية الثانية تشكلت هيئة الأمم المتحدة. يقول
توينبي: «ان الدولة العالمية تتقبل الحياة لكلي تضع حداً للحروب و لتستبدل


|145|

بالتعاون سفك الدماء»[1] و يعود الفشل الذريع الذي منيت به عصبة الأمم سابقاً و
هيئة الأمم حالياً في إقرار الأمن في العالم إلى إنهما لم يستندا إلى فكرة عالمية
حقيقية و إنما إلى شعار عاطفي أوحت به نتائج الحربين العالميتين الأولى و الثانية،
ففي ظل عصبة الأمم و صلت العنصرية الالمانية ذروتها على يد هتلر، و في ظل
هيئة الامم تكوّن الكيان العنصري الاسرائيلي و بلغ العدوان الامريكي على بقاع
عديدة من العالم مديات واسعة، و هذا يعني إن العالمية العاجزة التي لا تتجاوز
مرحلة الشعار العاطفي سرعات ما تتحول إلى غطاء تمرّر من خلاله القوميات
الكبيرة اعتداءاتها على القوميات الصغيرة، و قد توصل الامريكان أخيراً إلى أن رفع
شعار العولمة و القوية العالمية الواحدة هو الطريق الأفضل لإبتلاع العالم و فرض
السيطرة عليه.


اختلاط العناصر ضرورة حضارية

و الدولة العالمية تعني اختلاط العناصر و الأجناس و القوميات و امتزاجها في
نطاق تجربة اجتماعية و سياسية و ثقافية واحدة، و قد اثبت التأريخ إن الحضارة
الإنسانية مدينة لهذا الاختلاط فأينما وجد الاختلاط كانت الحضارة، و كلما اتجه
الإنسان نحو العزلة سار نحو الضعف و ضمور القابليات، و شاهدنا على ذلك أن
الحضارة الإسلامية نبعت من مراكز الاختلاط القومي، فظهرت بغداد و الكوفة و
سمرقند و الري و الأندلس كحواضر علمية هامة، بينما ضعف دور مكة و المدينة و
دمشق، المدن الثلاث التي لم تسعد بهذا الإختلاط.

و هذا ما ينقذ المجتمع البشري من العزلة القومية التي عندما تستبد بالانسان
تقوده الى التعميم اللامنطقي. و هو تعميم مكعب يشتمل على ثلاثة انواع من الخطا.
خطأ في تعميم الايجابيات المدعاة لهذه القومية او تلك على كل ابناءها مع


(1). المذاهب الكبرى في التاريخ/ص‏294 نقلاً عن كتاب دراسة التاريخ لتوينبي ج‏7 ص‏55.


|146|

انهاوجود كبير متنوع يشتمل على الافراد الجيدين و الرديئين، الاذكياء و الاغبياء
معاً. و خطأ في تعميم الادعاء بالايجابيات بحيث ينسب الفرد كل ايجابية لقوميته و
يبعد كل سلبية عنها مع ان كل قومية و كل امة لها ايجابياتها و سلبياتها. و لم يحفل
التأريخ بمثال لإنسان منزه عن النقص - عدا المعصومين -، و خطأ ثالث في تعميم
الادعاء بالايجابيات على مستوى التأريخ، حيث تؤكد مناهج التربية و التعليم في
الانظمة القومية على تصوير التأريخ القومي على انه نموذج المُثل و الاقتدار و
الابداع. و هذا لا يعني ان القوميين ينكرون نسبية قومياتهم او يدعون الخصائص
المطلقة لها على الصعيد النظري، فان النسبية واقع انساني و ليس بالامكان انكاره و
لكن الشعور القومي المتعصب يجعل الانسان يتعامل مع قوميته كما لو كانت استثناءاً
من الواقع‏الانساني و انهاحالة مطلقة. و ما شعار «المانيا فوق الجميع» «ايطاليا فوق
الجميع» و امثاله من الشعارات التي رفعتها العديد من القوميات الاوروبية الى فترة
متأخرة من الزمن الا تعبيراً عملياً عن شعور يتعامل مع هذه القوميات كحقائق
مطلقة، و على نحو مشابه تماماً للحقيقة الالهية التي يُستعمل بأزاءها تعبير «يدالله
فوق ايديهم» او «كلمة الله هي العليا».

و لقد كان من مساوي‏ء سيادة هذه الروح القومية في الحياة الحديثة، ان اتجهت
الانظمة القومية في العالم الى تلقين الناشئة و الطلاب في مختلف مراحل الدراسة
بأنهم ينتسبون الى اعظم الامم، و ادعاء المجد يستلزم عادة المبالغة في تعظيم الذات
على حساب الاخرين مما ادى الى ظهور صراعات ثقافية بين القوميات في مجال
التأريخ العلمي و الفكري.

يقول ويل ديورانت:

«ظهرت القومية في القرن التاسع عشر فأفسدت ضمائر المؤرخين».[1]

و عن سلبية القومية في المجال العلمي يقول روبرت.م. ما كيفر:


(1). الاسلام و القومية/ص‏78.


|147|

«و يكون هذا التقدم - يقصد التقدم العلمي - افضل و اسرع فيما لو شعر الناس
بوجودهم شعوراً اعمق بصفتهم علماء و مهندسين و مخترعين و فنانين و رفاقاً في
عملية تقدم واحدة و عاملين في سبيل مصلحة واحدة بدل ان يشعروا بوجودهم
بصفتهم بريطانيين و فرنسيين و يا بانيين و المان و امر يكيين فيصبحون اعضاءاً في
نظام عالمي يحكمه القانون و يصبح شعورهم بالامن في ظل هذا النظام اقوى من
شعورهم به في ظل الكيانات القومية الخاصة التي تفرق الآن بينهم و التي لم تعد
تستطيع ان توفر للإنسان ما يحتاج اليه من امن».[1]

و قد كان من النتائج السلبية للحركة القومية في الميدان العلمي ما جعل
الفيلسوف الرياضي براتراند رسل يدعو الى انشاء جامعة عالمية «تفتح ابوابها
لجميع الاجناس و جميع الاديان و جميع الاراء السياسية ما عدا تلك التي ترفض
المعاونة العالمية...و لكل رجل او امرأة على استعداد علمي ان يدخلها فلا يحول
بينه و بين دخولها لونه الاصفر او لونه الاسمر او لونه الاسود».[2] و عنده ان العرف
القومي اضر في تأريخ العلوم، فالقاعدة التي تعرف عند الانجليز بإسم قاعدة بويل
تسمى قاعدة مارييت بين الفرنسيين و يقول: «ان الامم الكبرى جميعاً - على تفاوت
في الدرجة - تزيّف التأريخ و تتعرض له بالتمويه و التعديل».[3]


(1). تكوين الدولة /ص‏522.

(2). ردود و حدود/ص‏139.

(3). المصدر السابق/ص‏140.

تعداد نمایش : 5943 <<بازگشت
آموزش

سامانه آموزش

پژوهش

سامانه پژوهش

کتابخانه

کتابخانه دیجیتال

نشریه

فصلنامه حکومت اسلامی